ليلى مراد.. الحب والألم (الحلقة الثانية)
السبت، 27 مايو 2017 10:17 م
الحلقة 2
سيد درويش ونجيب الريحاني طريق زكى مراد إلى النجومية
رحيل درويش وانهيار فرقة الريحاني وراء هجرة زكى مراد
كيف عملت ليلى مراد خياطة لتساعد أهلها ؟
ليلى مراد بدأت الغناء فى الحمام فتوافد الجيران على منزلها
ملخص الحلقة الأولى
توقفنا في الحلقة السابقة عند أسرة ليلى مراد اليهودية المصرية، وكيف تعرف والدها زكي مراد على والدتها جميلة سالمون وزواجه منها، وطبيعة حياة اليهود في مصر مع بدايات القرن العشرين، ومشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية والفنية.
ونواصل اليوم استكمال سيرة حياة «سندريلا الأغنية العربية».. المليئة بالميلودراما التي تحتاج إلى عشرات المسلسلات والكتب.
فرح زكى مراد بطفلته ليلى التي جاءت بعد ميلاد طفليه مراد وإبراهيم وكانت السعادة تغمر قلبه، وكان يعتبرها فألًا حسنًا عليه وبشرى خير، وفاتحة رزق كبير، لذلك كان يحرص على العودة من عمله مبكرًا كي يستطيع مداعبتها، وفي نفس الوقت كان يعمل ليل نهار من أجل توفير المال اللازم لاحتياجات طفلته التي كانت تكبر أمام عينيه يوما بعد يوم.
ونجح زكى مراد في جذب حب نجوم التلحين والغناء في عصره، مثل منيرة المهدية والشيخ زكريا أحمد وداود حسني، وسيد درويش، والأخيرين كانا بمثابة معلمين لزكي، وقد ساعداه كثيرًا وقاما بتعريفه على الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذى كان وجهًا صاعدًا آنذاك بفضل تبنى أمير الشعراء أحمد شوقي لموهبته ورعايته له.
بدأت انطلاقة زكى مراد، بعد عمله مع الممثل الذى أضحك وأبكى العالم العربي نجيب الريحاني، ثم شارك زكى مراد في أوبريت «العشرة الطيبة»، الذي كان أحد الانجازات الفنية المهمة بعد ثورة الشعب المصري عام 1919.
كان نشيد الثورة الذي صاغه فنان الشعب المصري سيد درويش «بلادي بلادي .. لك حبي وبلادي»، قوة روحية تدفع الشعب المصري للمقاومة ضد الاحتلال البريطاني والعثمانى للبلاد، هذا النشيد الذي سيبقى نشيدًا بلعرب في جميع بقاعهم وأصقاعهم.
لقد أصبحت موسيقى سيد درويش الصورة الحقيقية لثورة الشعب المصري بكل فئاته، لأن درويش عبر بموسيقاه وأغانيه عن أناس لم يكونوا في العير أو في النفير من وجهة نظر الحكام والسادة الإقطاعيين.
كان أوبريت العشرة الطيبة الذي عرض في يوم 11 مارس 1920، أحد إبداعات سيد درويش الغنائية، ذلك أن مؤلفه الأديب المسرحي الكبير محمد تيمور، قد اقتبسه عن مسرحية فرنسية اسمها «ذو اللحية الزرقاء»، ولكن أغاني وفواصل وألحان الشيخ سيد درويش، وأداء تلميذه زكى مراد الذي قام بدور «سيف الدين»، مع عمالقة المسرح في ذلك الوقت نجيب الريحاني وروزاليوسف وحسين رياض.
وكان الأوبريت فواصل ساخرة من حكام مصر المحروسة في ذلك الوقت الذين ينهبون أرضها وخيراتها من أتراك عثمانيين، جاءوا بعد المماليك الذين نهبوا البلاد وأذلوا العباد، في وقت كان فيه الملك فؤاد يحتفل بمجيء ولى عهده فاروق، بينما لا تزال مصر تحت الاحتلال الانجليزي.
إن طوابير الصنايعية والمراكبية والشيالين والسقائين والعربجية والفلاحين والغلابة، جعل لهم سيد درويش صدى في موسيقاه بل صورًا إنسانية، حتى لقد شحن المسرح بجو الريف المصري الصعيدي والنوبي السوداني، وسخرت موسيقاه الكاريكاتورية من الحكام والطغاة المتعجرفين أحفاد المماليك والأتراك والأرناؤط والأجانب المستغلين والمحتلين من الإنجليز، وتهكّمت كذلك بالحكام المنحدرين من سلالة الألبان «أسرة محمد على باشا والحاشية المنافقة»، وانتقد سيد درويش تجنيد الشباب بالقوة لخدمة الجيش البريطاني فقال: «يا عزيز عيني .. وأنا بدي أروح بلدي، بلدي يا بلدي .. والسلطة خدت ولدي».
يقول المؤرخ الموسيقى عبد الحميد توفيق زكي، في كتابه «سيد درويش في عيد ميلاده المئوي»: «إن سيد درويش نقل الموسيقى الغنائية المصرية من مرحلة التطريب إلى مرحلة التعبير التي ديدنها الصلة الموضوعية بين الكلم والنغم».
ويقول أيضًا: «إنه عمد إلى صياغة اللحن البوليفوني أي المتعدد الأصوات، فجعله ثلاث مجموعات تغني ثلاثة ألحان مختلفة، بكلمات مختلفة، وموضوعات مختلفة في وقت واحد بطريقة مستساغة بالرغم من أنه لم يكن قد درس علوم الموسيقي التوافقية، والتوزيع الآلي والغنائي وما وراء ذلك من التدوين الموسيقي، وما إليها من العلوم الموسيقية العالمية».
يعتبر سيد درويش من وجهة نظر النقاد ثورة في التفكير الموسيقي، ولقد أراد للموسيقى أن تتوجه وجهة غير التي هي عليها، حتى إذا نشبت ثورة 1919 أصبحت موسيقى سيد درويش الصورة الحقيقية لثورة الشعب المصري بكل فئاته، وبالمقارنة مثلًا مع ثورة 23 يوليو سنة 1952، والتي كانت حربا على الملكية والإقطاع في مصر، لم نجد من يواكب هذه الثورة من الفنانين ليؤدي ما أدّاه سيد درويش في مواكبته لثورة 1919، اللهم إلّا ما كان من أغاني حماسية صارخة لتمجيد الزعيم جمال عبد الناصر، حتى جاء الذي بعده فنسخ وبجرة قلم ما كان قبله».
على أنه لا يستطيع أي ناسخ مهما كانت جبروته أن ينسخ أو يمسخ آية واحدة من آيات الإبداع التي جادت بها عبقرية سيد درويش عندما تفجرت ثورة 1919، ومن هنا يمكن اعتبار رسوخ موسيقي سيد درويش ميزة ثالثة، وكأنها في خلودها نهر النيل الخالد أو الأهرام التي لا تتزعزع!
وفى الوقت الذي كشف فيه أوبريت «العشرة الطيبة» عن عبقرية روزاليوسف وحسين رياض، فإنها كشفت عن روح زكى مراد الغنائية، الذى تألق أمام روز اليوسف غناءً وأداءً وتمثيلًا، وأصبح بين يوم وليلة منافسًا لنجيب الريحاني أو «كشكش بيه».
وقد تفتح وعي الطفلة الصغيرة ليلى مراد على أغاني العشرة الطيبة، وكان البيت الكبير المكون من 8 غرف، يزخر بالفنانين والأدباء والنقاد، كما ذكرت لي هدى التابعي، زوجة أمير الصحافة العربية الحديثة محمد التابعي، عندما كنت أستعيد ذاكرتها المثخنة بالجراح والآلام، عقب انتحار مأساوي لابنها محمد في شقة التابعي بالزمالك، وقد اصطحبتني إليها السيدة الفاضلة معتزة جارتها بالزمالك وصديقتها الوفية، منذ أكثر من نصف قرن.
تحدثت هدى التابعي، عن ذكريات زوجها مع زكى مراد، وكيف كان يحضر سهرات يوم السبت في العباسية، حيث يتحول منزل زكي مراد إلى كازينو صاخب من الألحان والغناء وجلسات النقد، وكيف كان زكي ينفق كل سبت ما في جيبه حتى لو اضطر للاقتراض من أجل أن تظل تلك السهرات التي كانت ليلى الصغيرة بنت السنوات الخمس تبتسم وهي تجلس على حجر التابعي، وهو يداعبها بينما تلعب بعود والدها، فتجرى أمها لتسحبها من هذا الجو، لأنها لا تريدها أن تصبح مثل والدها الذى أحبته مطربة مشهورة وذائعة الصيت رغم معاناة الأسرة من طبيعة الأب غير المستقرة.
وكما كان سيد درويش فاتحة خير على زكي مراد، ومقدمة لانتشاره وذيوع صيته، فقد كان رحيله أيضًا نكسة على مراد ومسيرته الفنية ولا أبالغ إذا قلت إن رحيل سيد درويش في 10 سبتمبر 1923 بالإسكندرية، وتوالت العواصف على مراد فلم يستطع الصمود أمامها، ذلك أن فرقة نجيب الريحاني قد انفرط عقدها بعد أن تركها المخرج عزيز عيد، وكذلك أيضًا قيام عميد المسرح العربي الفنان يوسف وهبي، بتأسيس فرقة «رمسيس» المسرحية، وانضمام روز اليوسف إليها.
كان زكى مراد هوائي المزاج، وكانت الظروف السياسية والاجتماعية بعد نهاية ثورة 1919، تقف أيضًا في مواجهته وتجبره على الاضطرار لاتخاذ قرارات مفاجأة حتى لو سببت انزعاجًا لمن حوله خاصة أسرته الصغيرة، وقد حدث أن فاجأ زكي مراد، أسرته بسفره في رحلة غريبة إلى بعض البلدان متنقلًا بين تونس والجزائر ومنها إلى باريس ثم إلى الولايات المتحدة، لإحياء بعض الحفلات الفنية وجلب المال الوفير لأسرته.
ولم تكن الأسرة البائسة على علم ولم يخطر ببالها أبدًا أن زكي مراد ستصل به تصرفاته إلى هذه الدرجة من البوهيمية والصعلكة، مهما كانت نواياه طيبة فقد ترك زوجته وأولاده، وكانت زوجته كل يوم تسأل عنه أصدقاؤه من الملحنين والمطربين والأدباء، وتدور من مقهى لمقهى ومن منتدى لمنتدى ومن مسرح لمسرح، حتى تعبت وأضناها السؤال، دون أن تصل إلى أي نتيجة، حتى لزمها المرض، وفي يوم مساء يوم سبت.
فاجأ زكى أسرته كعادته وأرسل لهم رسالة من عرض البحر يخبرهم فيها على سطح مركب، قائلًا: «حبيبتى جميلة لك قبلاتي وأشواقي ولصغارنا، وما تزعليش مني أنا دلوقت في عرض البحر في قلب المحيط الأطلسي في طريقي لأمريكا».
صعقت جميلة من الرسالة الطائرة عبر البحر ووقعت على الأرض من هول المفاجأة، ومرت الأيام وكانت جميلة تعتمد على أهلها للإنفاق على أولادها ودفع إيجار البيت، ولكنها كانت تريد الاعتماد على نفسها حتى لا يعايرونها بزوجها الذي رفضوه وأصرت على أن تعيش معه، وكان زكي يرسل كل فترة رسالة بها دولارات وأحيانًا ينقطع عن إرسال الأموال ربما لتدهور ظروفه وعدم دعوته للغناء في الحفلات، وقد انعكس ذلك على بيته، فاضطرت زوجته إلى الاقتراض من الجيران ولما عجزت عن دفع أجرة البيت ومصاريف مدارس الأولاد خاصة «سانت ان ونوتردام دى زابوتر»، التي يتعلم فيها أبناء الطبقات الميسورة.
وشعرت جميلة بآلام الحمل فازدادت ظروف الأسرة سوءًا، واضطرت لمغادرة شقة العباسية الكبيرة والانتقال إلى شقة صغيرة مكونة من حجرتين فقط وأثاثها متواضع بحي «السكاكيني» الذي كان يعيش فيه عدد كبير من يهود مصر، واضطرت ليلى العمل بالخياطة للجيران ولبعض اليهود في المنطقة حتى تستطيع مساندة أسرتها فى هذه الظروف التي تمر بها، ورغم أنها كانت تتقاضى 7 قروش فقط في اليوم، إلا ان ذلك المبلغ القليل جدًا كان النواة التي تسند الزير كما يقال فى الأمثال المصرية، والغريب أن زكي مراد الذي كان يطمئن زوجته إلى أنه سيعود بعد أربعة شهور، استمر أربع سنوات ونصف، تاركًا زوجته وأبناؤها التسعة للمجهول.
وقد أثرت هذه الحادثة في ليلى مراد كثيرًا عندما كبرت وتزوجت من الفنان أنور وجدي، عام 1946 عندما قال لها وكان في بداية حياته الفنية: «أتمنى أن أكسب مليون جنيه ولو أصبت بمرض، فقالت له: وما قيمة المال مع المرض، فقال لها في تحد: «أنفق جزءًا من ثروتي على العلاج وأعيش البقية الباقية سعيدًا طوال حياتي، فحكت له ليلى قصة والدها وهجرته لهم مدة كبيرة ومعاناة أسرتها وأنهم تمنوا لو عاش معهم هذه المدة فقيرًا دون أن يفارقهم للمجهول ولا يعلمون مصيره، والغريب أن عناد أنور وجدى جاء بنتيجة عكسية فقد أصيب بمرض سرطان المعدة المبكر ولم تنجح الملايين التي حققها من إنتاج الأفلام في شفائه ولم يسعد بها لأنه لم يستمع إلى نصيحة زوجته المؤمنة الصادقة، وهو ما سأتناوله بالتفصيل في الحلقات القادمة.
وقد عاد زكى مراد إلى مصر عام 1928، ووجد نفسه عاطلًا، وفى هذه الفترة بحسب شهادة عدد من المؤررخين ومنهم الدكتور عبدالوهاب بكر، انضم إلى إحدى جماعات الماسونية وكانت لها محافل يشترك فيها عدد من النخبة والباشوات المصريين، وقد ساعدوه وأمدوه بالمال الوفير، ولكنهم لم يستمروا طوال الوقت فبدأ زكى مراد يعود إلى الغناء فى الحفلات العامة حتى تحسنت حالته المادية.
و كانت أصداء أغنية والدها ترن في فؤادها فتنتشى مشاعرها: «ماشبعتش من ليلة امبارح .. ماتفكرنيش أمادى ليلة فى غاية الرقة».
البداية من تراتيل الكنيسة:
نشأت ليلى في جو من الألحان والسهرات الفنية وتفتحت عيناها على أصداء المشاهير في البيت، رياض السنباطى ومحمد القصبجي وداود حسني، فزاد ذلك من انجذابها الفطري نحو الغناء وعالمه السحري وتعلقت روحها بهذا العالم، من سيكا ونهاوند وصبا وحجاز وأندلسي، فغلبت الروح على التعلم وطبعت الموهبة على نفسها، فصار عود والدها في حضنها عند النوم لاتفارقه.
كانت التراتيل الكنسية بمدرسة «سانت إن» تشد أذن ليلى، وتطربها، وكانت تردد بعضها كترانيم دون أن تفهم معناها، لأنها باللغة اللاتينية.
لم تكن الطفلة بنت الست سنوات تعرف معنى الأغنية، ولكنها كانت تدندن بهذه الأغنية في «الحمام»، وقد نشرت مجلة المصور في عدد شهر أغسطس 1932 أن أهالي حي «السكاكيني» تجمعوا ليسمعوا صوت الآنسة ليلى ابنة الملحن زكي أفندي مراد، وهى تغنى بصوتها الرقيق من داخل الحمام، لقد كان صوتًا ساحرًا شد أسماع الجيران وكأنه صوت ملائكي، ولأن ليلى الصغيرة أمسكت بجهاز «الفونوغراف» الذي كان يحل محل الراديو في مطلع القرن العشرين وله بوق كبير، وهو وسيلة لسماع أسطوانات الأغاني فقط قبل اختراع وتطور الوسائل الأخرى.
وقد كانت أول أغنياتها، لفتى أحلامها الأول ومعشوقها ووالدها الروحى محمد عبدالوهاب «ياجارة الوادى»، وقد سمعها أصدقاء والدها فزادوا إعجابًا بها وطلبوا من والدها أن يسمح لها بالغناء، ولكن الغريب والمثير الذي لم يتوقعه أحد هو رد فعل زكى مراد بكل ما عرف عنه من «بوهيمية» و«صعلكة» وعشق للطرب والغناء، رفض أن تقترب ابنته من احتراف الغناء بسبب الحالة التي كان يمر بها وإفلاسه أكثر من مرة وكان يريد أن تكون طبيبة اليهودية، يكون لها شأنها ولكن الأقدار كانت ترسم لليلى طريقًا آخر طريق المجد والشهرة المبكرة.
ولكن الظروف دفعت زكى مراد إلى الانصياع إلى رغبة ابنته وضغوط أصدقاؤه، فقد عجز عن دفع مصاريف مدرسة نوتردام الباهظة، ولم يستطع توفير الثياب ومصاريف الحفلات والكتب الأجنبية، فاضطرت ليلى إلى الانقطاع عن المدرسة وبدأ زكى مع أصدقاؤه في تدريبها على الغناء في الحفلات العامة، وكانت المفاجأة التى تمنتها ليلة طوال حياتها فقد حضر عبد الوهاب إلى بيتهم الجديد في حدائق القبة، وغنت ليلى أمامه بينما كان عبد الوهاب يعزف العود.
وعندما انتهت هتف عبد الوهاب بملء صوته الشجي: «الله الله .. انت كنت مخبي الكنز ده فين يا أستاذ زكي؟ وهنا خجلت ليلى وخرجت مسرعة إلى غرفتها.
كانت كلمات عبد الوهاب كالكيمياء الساحرة سرت في عروقها فعادت إليها الحياة، ولم تنم هذه الليلة وظلت في سريرها تحتضن العود، وتتذكر صورة عبد الوهاب الجميلة بملابسه التى تشيه فرسان العصور الوسطى.
اقرأ أيضًا:
ليلى مراد.. الحب والألم (الحلقة الأولى)