كلبتومانيا

الأحد، 14 مايو 2017 09:30 ص
كلبتومانيا
أرشيفية

كانت جلستى معها فى ذلك اليوم رومانسية خالصة فالشموع مضاءة والمطعم راق تنتشر فيه روائح البرفانات الغالية مختلطة بروائح شواء اللحم والجمبرى فتصل إلينا وهى تعانق نغمات البيانو الذى يلعب عليه عازف أنيق، وكانت تتوق إلى الرقص وتنتظر منى أن أطلب ذلك منها، نعم رأيت ذلك فى عينيها فقمنا إلى الرقص بدعوة رقيقة منى، لامست يدى عنقها الرقيق فاحمرت وجنتاها وما زلنا ندور مع الموسيقى الناعمة حتى استقر خدها على خدى.
 
لم أكن أفكر يومها سوى فى شىء واحد كيف أحصل على عقدها الألماس، دون أن تشعر حاولت كثيرا أن أفك العقد بسرعة ونعومة ثم أسقطه فى جيبى، لكنى ارتبكت وخفت أن أنكشف، ثم جاءت الفرصة حين ذابت ومالت برأسها على كتفى ففككته بسهولة ودسسته فى جيب بنطالى ثم عدنا إلى المائدة.
 
انقضت الليلة ولم تشعر رفيقتى بما سرقته، فقد خيل إليها أن العقد وقع فى مكان غير معلوم وقد أرقها ذلك لأنه عقد ثمين ويخص جدتها كميراث عائلى وقد واسيتها ووعدتها أن أعود إلى المطعم لأبحث عنه فى المساء.
 
ما أن أغلقت التليفون حتى بدأت ألعن نفسى فهذه ليست أولى سرقاتى ولا يبدو أنها آخرها فأنا يا سيدتى شاب فى الثانية والثلاثين من عمرى وسيم ومتيسر الحال وأبى يمتلك عدة مصانع وأعمل معه فى إدارتها ولم أمر يوما بفقر أو ضيق مادى لكنى أسرق دائما.
 
ولا أعلم سبب استمتاعى بذلك فمنذ كان عمرى 12 عاما وأنا أتلصص على أصدقائى وزملائى لأعلم ما يخبئونه من أشياء خاصة كأقلام أو كشاكيل ثمينة أو ملابس فخمة وأقوم بسرقتها وأخبئها فى مكان سرى بحجرة فى حديقة فيلتنا الكبيرة.
فعلت ذلك مرارا فى المدرسة وفى الجامعة وفى المصايف وفى النوادى أثناء التدريبات وفى المعسكرات الصيفية وفى الأفراح والمناسبات العائلية وفى الحفلات وفى الخروجات ولم يكتشف أحد ذلك لمهارتى فى إخفاء جرائمى الصغيرة أو التى كانت صغيرة.
 
لم أكن أشعر وقتها بالذنب، طفل يلهو إلى أن كبرت وكبرت معى العادة وبدأت أحلل أسبابها نظرت حولى وتدبرت، نعم إنه أقرب المقربين لى لقد كان أبى سامحه الله عشت لحظات خانقة وأنا أتذكر ذلك الحوار بينه وبين أمى وكيف واجهته بأنه سرق زوجة صديقه وأقام معها علاقة عاطفية ثم طلقت ورفض أن يتزوجها، لم أكن أعى مدى انحطاط أبى الأخلاقى وهو يضحك بصوت عال ويقول إن هذه الدنيا قائمة على السرقة منذ بدء الخليقة، وأن منطق الحياة هو الصراع والمنافسة واللى تغلب به العب به ويبرر فعلته بأن زوجة صديقه ليست فقط جميلة ولكنها صاحبة نفوذ أفاده فى استثماراته.
 
وقتها ترسخ فى ذهنى أن هذه هى الحياة فبدأت أسرق كل ما أجد أصدقائى متعلقين به، وبدأت أتلذذ بالحسرة فى عيونهم وهم يبكون ضياع أشيائهم، ثم جربت اللعبة مع أبى وسرقت ساعته الثمينة المفضلة ورأيته غاضبا متوعدا فجريت إليه ورددتها وطلبت منه أن يسامحنى فصفعنى كفا لا أنساه وقال إنى لص ولم أتربى جيدا ولم يمهلنى لأحكى له أننى أطبق مبادئه.
 
كان عمرى وقتها 14 عاما وحدث شرخ بداخلى انقسمت إلى شخصين شخص يسرق ويستمتع بفعلته، وآخر يبكى ويشعر بالذنب والخطيئة وما زالت حالتى كما هى حتى إننى حين لا أجد ما أسرقه أجرى مسرعا إلى أقرب حفل أو مناسبة أو وليمة طعام لأغافل الحاضرين وألطش أى من ممتلكاتهم الخفيفة كالموبايلات والأقلام والولاعات.
 
رغم ذلك كنت أشعر بأننى ملاك بالنسبة لأبى فقد كان سارقا للأشخاص والمشاعر جشعا فى جمع المال الذى لم أعد أثق أنه جمعه بطرق مشروعة، ورحت أسرق من ميزانية الأعمال التى يوكلها لى بعد تخرجى وعملى معه. لا أريد مواعظ ولا نصائح ترتبط بالإيمان وعقاب الله، فأنا أعلم جيدا أن الله يعاقب على السرقة لكننى أعلم أيضا كم هو رحيم بالمرضى أمثالى، فكيف أعالج دون أن أسبب فضيحة لعائلتى؟
 
وكيف أعود شخصا سويا؟
 
عزيزى السائل أنت لا شك وبدون استشارة طبية مريض بمرض السرقة أو الكلبتومانيا kleptomania.
 
ولكن ليس معنى ذلك أنك غير قادر على التغيير والشفاء من المرض، فلا بد أن تتجه فورا إلى طبيب نفسى وتتبع العلاج السليم سواء دوائى أو سلوكى، فأنت لست لصا بمعنى احتراف اللصوصية.
 
فالسارق هو الذى يتسلّل خلسة لينشل مالاً أو مجوهرات أو أغراضاً بهدف الربح المادى غير المشروع، بسبب الجشع أو الحاجة أو الطمع، ناهيك بالشق الأخلاقى المعدوم لديه، إلاّ أنّ ثمة حالات سرقة تختلف عن سواها، وهى ما يُعرف بـ«مرض السرقة» أى الكلبتومانيا، حيث يكون السبب الاضطراب النفسى والمحرّك اللذة الآنيّة، والهدف الإثارة والنزوة فى مجتمعاتنا الشرقيّة، لا تزال هذه الحالة النفسية طيّ الكتمان، خوفاً من «الفضيحة» وتفادياً لردّات الفعل غير المستحبّة، كوننا نميل إلى تصنيف الناس ووضعهم فى خانة «السارقين»، أى المخلّين بالأنظمة والقوانين، ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ مرض السرقة لا يزول من تلقاء نفسه، فهو وليد اضطرابات متداخلة ويحتاج بالتالى إلى علاج ومتابعة.
 
ويعرف علم النفس مرض السرقة أو الكلبتومانيا بأنه عدم القدرة على التوقّف عن السرقة، لكسب منافع غير شرعيّة، بغية الحصول على الإثارة الفوريّة واللذة الآنيّة، يتغذّى هذا الاضطراب النفسى من النزوة الجامحة للقيام بشىء «خطر» ومثير، وهو لا يهدف إلى الربح المادى ولا ينبع من عوز أو حاجة، لذلك، لا يمكن القول إن الشخص المريض هو سارق، وإنما يعانى من حالة نفسيّة اضطرابيّة، تتمثّل فى عدم القدرة على مراقبة النزوات والسيطرة على الرغبات الجامحة Impulse control Disorder. هذا الهوس بالسرقة شبيه إلى حدّ ما بحالات الإدمان أو المقامرة أو الشراهة فى الأكل، بحيث يرتفع مستوى الأدرينالين فى الجسم إثر القيام بالعمل، ليشعر المرء بحالة من اللذة الفوريّة والنشوة العارمة.
 
أجمعت التفسيرات على أنّ الدافع إلى السرقة قد يكون تهدئة توتّر وقلق يشعر بهما المرء، فيعمد إلى انتشال غرض بسيط ليشعر بالراحة بعد إنجاز الأمر، ومن الصعب جداً معرفة أنّ الشخص مصاب بهذه الحالة النفسيّة، إذ يظهر متّزناً نفسياً وتغيب عنه حالات الهذيان، إلاّ أنه فى بعض الأحيان، قد تظهر بعض علامات الاضطراب عليه، كأن يعانى من حالة نفسيّة معيّنة، أو يجد صعوبة فى لجم تصرّفاته والسيطرة على سلوكه وعواطفه، كما قد يترافق الأمر مع حالة انهيار بعد فترة من الوقت، كما يرجّح علماء النفس أن يكون هذا الهوس بالسرقة مرتبطاً بحالات نفسية أخرى تطال الإنسان مثل الاكتئاب أو الإدمان وغيرهما. وبالإمكان مرادفة هذا الشعور الجامح بالرغبة مع عدم الاكتفاء والرضى العاطفى، فيحاول الشخص إيجاد مخرج للتوتّر.
 
فمن الممكن أن يكون الشخص الذى يعانى من الكلبتومانيا قد تعرّض فى حياته لمشاكل حرمان أو هجر أو بُعد عاطفى وعائلى فى صغره، فتنطبع هذه الأمور فى شخصيّته وتكون السرقة مجرّد واجهة لأشياء مكبوتة، ليحاول المريض إيجاد منفذ لقلقه ومتنفّس لتوتره وعلاقاته المتزعزعة، حاولت أن أوضح لك الفرق بين السارق الذى يسرق لسد حاجاته، والمريض النفسى بداء السرقة وأعتقد أنك واجهت كثيرا من الحرمان العاطفى فى تربيتك بجانب اتخاذك من انحرافات الأب الأخلاقية قدوة لك وتبريرا لما تفعله، كما كان هو بردة فعله العنيفة أحد أسباب استمرارك فى الخطأ فلو كان احتوى المشكلة منذ صغرك لما كبرت وتفاقمت معك، لكنه انشغل بجمع المال بالحلال والحرام دون أن يدرى ما يحدث لك وربما لإخوتك.
 
أما كيف يكون العلاج: 
-الخطوة الأولى: تبدأ باعتراف الشخص بوجود مشكلة كى يتمّ العمل على حلّها، لكن للأسف، يبقى أنّ نسبة الأشخاص الذين يُقدمون على العلاج من تلقاء نفسهم لهذه المشكلة، ضئيلة جداً.
 
- ولحسن الحظ أنك من هؤلاء الأشخاص الواعين الراغبين فى تلقى العلاج فلا تتأخر خاصة أن لديك القدرة المادية على ذلك وستمر الأزمة ما دامت لديك إرادة التغيير والرغبة الصادقة فى الشفاء.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق