المنوفية فى شعر شوقى «2 - 2»
الثلاثاء، 16 مايو 2017 12:00 م
هى من مآثر جمعية المساعى المشكورة، ولكننى أنشر هذا المقال وسابقه، لتبيان قيمة ومهمة الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدنى آنئذ، وإنشغالها بعمل الخير وإشاعته فى المجتمع فى جميع المجالات، وخصوصا التعليمية والصحية والاجتماعية. وهذا على عكس أداء بعض منظمات المجتمع المدنى اليوم التى تعيش على المنح الخارجية بما فيها من أخطار، وفقد كثير من الجهد فى مجالات ليس من ورائها طائل تعليمى أو صحى أو اجتماعى.
السبب الآخر فى هذا هو إحساس الشعراء بجمال الخير فى المجتمع، ولذلك فإنهم كتبوا العديد من القصائد والشعر والنثر لإشاعة الخير وحتى يتغنى به الناس، وهذا من مهام الأدب فى بلاد العرب والمسلمين.
كتب صديقنا يقول: يقول شوقى:
كان شعرى الغناء فى فرح الشرق *** وكان العزاء فى أحزانه
وبالفعل كان شعر شوقى معبرا بصدق عن فرح المنوفية بتأسيس جمعية المساعى المشكورة بشبين الكوم؛ حيث أُقيم احتفال مهيب؛ بدار الأوبرا الملكية؛ بتلك المناسبة النبيلة؛ وأرسل لهم أمير الشعراء؛ بدرة ثمينة من درره الشعرية؛ تلائم شرف المقام ونبل المقصد؛ حيث تبرعوا بألف فدان من أجود الأطيان فألقيت تلك القصيدة الدرة بالحفل؛ ولاقت احتفاءً واستحسانا واسعين، وقد ألقاها الشاعر الكبير على الجارم - رحمه الله - نيابة عن أمير الشعراء.
ولم تكن أيام المنوفية أفراحا متصلة؛ فدوام الحال من المحال، ففى 13 يونيو 1906 وقعت حادثة دنشواى الدامية؛ باعتبارها من أكبر فظائع اللورد كرومر بمصر؛ وأول صرخة شعبية مدوية ولطمة قاصمة على وجه المحتل الغاصب؛ وكانت سببا فى غياب الشمس عن الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس.
وحذر الأديب «برنارد شو»، إشارة الى مأساة دنشواى قائلا: أخشى على الإمبراطورية أن تصرفاتها هذه لن يكتب لها غير الزوال، وقد كان.
وأحداث المأساة؛ تتلخص فى قيام مجموعة من جنود المحتل الإنجليزى الغاصب؛ برحلة صيد لدنشواى القرية الوادعة المسالمة؛ التى كانت تتميز بحمامها الداجن - وكانت آنذاك تابعة لمركز تلا- منوفية، فأضرموا النيران بأحد أجران القمح؛ وقتلوا أم محمد؛ برصاصة طائشة؛ فتعقبهم الأهالى فمات أحدهم بضربة شمس؛ فأراد الإنجليز إرهاب الحركة الوطنية المتنامية آنذاك؛ فأحالوا 52 فلاحا للمحاكمة وانتهت المحاكمة بشنق أربعة منهم ومعاقبة 12 بالأشغال الشاقة المؤبدة وجلد خمسة؛ فجاء صوت شوقى معزيا؛ فى تلك المأساة الدامية بعد عام؛ وعاب عليه البعض صمته عاما؛ بعد تلك المأساة الوطنية، بل راحوا يطعنون فى وطنيته ويقدحون فى عرضه المصرى.
ويقينى أن الصدمة ألجمته عاما؛ حيث رثى والده أيضا بعد عام من وفاته؛ فأرسل زفراته الملتهبة؛ وحممه اللافحة؛ قائلا:
يا دِنشِوايَ عَلى رُبـاكِ سَـلام *** ذهبت بأنس رُبوعك الأيامُ
شُهَداءُ حُكمِكِ فى البِلادِ تَفَرَّقـوا *** هيهات للشمل الشتيت نظامُ
مَرَّت عَلَيهِم فى اللُحـودِ أَهِلَّـة *** وَمَضى عَلَيهِم فى القُيودِ العـامُ
كَيفَ الأَرامِلُ فيكِ بَعدَ رِجالِهـا *** وَبِـأَيِّ حـالٍ أَصبَـحَ الأَيتـامُ
عِشرونَ بَيتاً أَقفَـرَت وَاِنتابَهـا *** بَعدَ البَشاشَـةِ وَحشَـةٌ وَظَـلامُ
يا لَيتَ شِعرى فى البُروجِ حَمائِمٌ *** أَم فى البُـروجِ مَنِيَّـةٌ وَحِمـامُ
نَيرونُ لَو أَدرَكتَ عَهدَ كَرومِـرٍ *** لَعَرَفتَ كَيـفَ تُنَفَّـذُ الأَحكـامُ
نُوحى حَمائِمَ دِنشِوايَ وَرَوِّعـى *** شَعباً بِوادى النيلِ لَيـسَ يَنـامُ
إِن نامَتِ الأَحياءُ حالَـت بَينَـهُ *** سَحراً وَبَينَ فِراشِـهِ الأَحـلامُ
مُتَوَجِّـعٌ يَتَمَثَّـلُ اليَـومَ الَّـذى *** ضَجَّت لِشِـدَّةِ هَولِـهِ الأَقـدامُ
السوطُ يَعمَلُ وَالمَشانِـقُ أَربَـعٌ *** مُتَوَحِّـداتٌ وَالجُـنـودُ قِـيـامُ
وَالمُستَشارُ إِلى الفَظائِعِ ناظِـرٌ *** تَدمى جُلـودٌ حَولَـهُ وَعِظـامُ
فى كُـلِّ ناحِيَـةٍ وَكُـلِّ مَحَلَّـةٍ *** جزعاً مِنَ المَلَأِ الأَسيَفِ زِحـامُ
وَعَلى وُجـوهِ الثاكِليـنَ كَآبَـةٌ *** وَعَلى وُجوهِ الثاكِـلاتِ رُغـامُ
كما لمز كرومر عند رحيله قائلا:
لما رحلت عن البلاد تشهدت *** فكأنك الداءُ العياءُ نزولا
يا مالكا رق الرقاب ببأسه *** هلا اتخذت إلى القلوب سبيلا
وفى عام 1907 أقيم حفل بفندق «شبرد» لفتحى زغلول؛ شقيق سعد باشا زغلول؛ وقاضى دنشواى؛ الشهير بجلاد دنشواى؛ لترقيته وكيلا للحقانية؛ جزاء لما قدمه للمحتل الغاصب؛ من أحكام جائرة ضد فلاحى دنشواى.
طلب منظمو الحفل من أمير الشعراء إهداءه قصيدة ؛ تكريما له بتلك المناسبة فوعدهم، ووصل رسول شوقى بمظروف مغلق إلى فندق شبرد وفتحته لجنة الاحتفال فأسقط فى يدها حيث وجدت أبياتا تقول:
إذا ما جمعتم أمركم وهممتمُ *** بتقديم شىء للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرة *** وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعرى عليه فحسبه *** من الشعر حكم خطه بيمين
ولا تقرأوه فى شبرد بل أقرأوه *** على ملأ من دنشواى حزين
أقول، هكذا كان إحساس أمير الشعراء شوقى، جاء معبرا عن أحاسيس الشعب المصرى الغاضب من الاحتلال، والثائر لكرامته، والسعى للتحرر من الاحتلال.
طبعا كان فى المحاكمة الشهيرة قضاة ومستشارون ومدعون عموميون، وكان أشهرهم القاضى فتحى زغلول، والقاضى بطرس غالى، والمحامى الشهير إبراهيم الهلباوى، وكان هؤلاء جميعا من البشوات أو البهوات (البكوات) فى عصر الاحتلال.. وللحديث عن المحكمة (محكمة دنشواى) والأحكام فيها ودور كل من هؤلاء الثلاثة وغيرهم، يجب أن نعود إلى الوثائق المتاحة عنها حتى نستطيع أن نصل إلى نتيجة جلية لعلها تصلح دروسا فى السياسة والوطنية والمستقبل، وأن تعيش الحركة الوطنية حياتها ودورها المرتقب لمواجهة الظلم والطغيان إن كان من الخارج أو من أبناء الوطن للأسف الشديد.
أقول، وستظل دنشواى على مر التاريخ – بصرف النظر عن المحكمة والاحتلال والاجتهاد القضائى فى الحكم – ستظل واحدة من أكبر مفاخر الحركة الوطنية الشعبية التى رفضت الظلم، ووقفت ببسالة كبيرة أمام المحتلين، ومما لا شك فيه أن تلك الحركة الوطنية قد دقّت مسمارا فى نعش الاحتلال.. كم نحن فى حاجة اليوم إلى مثل هذه الحركة الوطنية القوية، وخصوصا أمام رحلة ترامب المرتقبة إلى العالم العربى.. وبالله التوفيق.