شهداء المسيحية من نيرون إلى العبور

الثلاثاء، 18 أبريل 2017 04:37 م
شهداء المسيحية من نيرون إلى العبور
كنيسة - ارشيفية
حمدي عبدالرحيم

دفاعا عن العقيدة مات المسيحيون جوعا فى زمن الإمبراطورية الرومانية.. والإنجليز ينفذون مجزرة بحق أقباط الإسكندرية لتأييدهم لأحمد عرابى.. وسعد باشا زغلول يزور قبر شهيد مسيحى ويعاهد روحه على مواصلة الكفاح.. الملازم عبدالمسيح يقرأ الفاتحة للقتال حتى الموت فى معركة محافظة الإسماعيلية.. واللواء شفيق سدراك يتوغل مطهرًا سيناء ويفوز بالشهادة فى بداية حرب أكتوبر.

عرفت المسيحية الشهادة منذ فجرها الأول، فقد ولد المسيح عليه السلام فى حضن كارهيه من بنى إسرائيل، فكان طبيعيا أن يذيقوه وأتباعه شتى ألوان العذاب والمحن، ثم عبر العذاب المسيحى البحر لتبدأ أوروبا التى كانت وثنية فى سلسلة مرعبة من اضطهاد المسيحيين وقتلهم.

 

١ - نيرون حارق روما وقاتل المسيحيين

 

كان من قدر المسيحية أن يكون أول صدام لها مع إمبراطورية ملكت الشرق والغرب وهى الإمبراطورية الرومانية التى كانت وثنية، ولم تكن تكره شيئًا كما تكره كلمة مسيحية.
 
تسجل كتب التاريخ أن عشرة أباطرة كان شغلهم الشاغل هو استئصال المسيحيين، وهؤلاء هم نيرون، دومتيانوس، تراجان، مرقس أوريليوس، سبتيموس ساويرس، مكسيمينوس، ديسيوس، فالريان، أوريليان، دقلديانوس.
 
وقد ثبت المسيحيون فى وجه كل أنواع القتل وقدموا من الشهداء فوق العد والحصر، فى ذلك الزمان كانت الشهادة دفاعًا عن الدين وعن العقيدة، فمفهوم المواطنة كما نعرفه نحن الآن لم يكن قد سجل وجودًا على أرض الواقع. تؤكد كتب التاريخ أن كل تعذيب وقتل للمسيحيين يتضاءل أمام ما شهده عصر الإمبراطور دقلديانوس.
 
لقد خلّدت الكنيسة مقاومتها لحكم ذلك الطاغية وجعلتها بداية لتقويمها المعروف باسم تاريخ الشهداء. فى عام 303 م أصدر منشورا بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد كل أصحاب المناصب العالية وحرمانهم من حقوقهم المدنية، وأصدر فى مارس عام 303 م منشورين بسجن رؤساء الكنائس وتعذيبهم بقصد إجبارهم على ترك دينهم.
 
أما الإمبراطور مكسيمينوس فقد أصدر منشورا يقضى بسرعة إعادة بناء مذابح الأوثان وأن يقدم المسيحيون الذبائح للأوثان، و لم يكن أمام المسيحيين فى ذلك الوقت إلا أن يموتوا شهداء أو يموتوا جوعًا أو يجحدوا وثنيين.
 
وأخيرًا جاء الإمبراطور قسطنطين الذى أصدر مرسومًا بالتسامح مع المسيحية ليكون بذلك آخر أباطرة الوثنيين وأول أباطرة المسيحيين، ولتبدأ معه مرحلة جديدة هادئة من حياة الكنيسة.

٢ - فى محبة عرابي
 
بعد رسوخ المسيحية بوصفها شريعة إلهية وبدء ظهور الدولة العصرية، واصل المسيحيون تقديمهم للشهداء، ففى العام 1804  أعلن البابا مرقص الثامن، والمعلم إبراهيم الجوهرى مساندتهما الصريحة الواضحة للقائد عمر مكرم وشيخ الأزهر الشيخ الشرقاوى فى الثورة على الوالى العثمانى خورشيد باشا، وقد نجحت الثورة فى خلع خورشيد، وتولية محمد على باشا، ولا يعلم سوى الله عدد شهداء المصريين من المسلمين والمسيحيين فى تلك الأحداث، وعندما جاء العام 1882 أعلن البابا كيرلس الخامس تأييده للثائر أحمد عرابى، وذهب البابا بعيدًا عندما ساند محمد المهدى العباسى وكان وقتها هو شيخ الأزهر، ووقفا معًا فى وجه الخديوى توفيق.
 
ولم يتراجع البابا مرقص عن تأييده لعرابى على مدار فترة الثورة، ولذا فقد وضع الاحتلال البريطانى الانتقام من المسيحيين نُصب عينيه، فبعد انكسار الثورة ووقوع الوطن فى قبضة الاحتلال، قام المحتل بتنفيذ سياسة العقاب الجامعى ضد المسيحيين خاصة فى مدينة الإسكندرية، وقد تصاعد العقاب حتى وصل إلى ما سجلته كتب التاريخ تحت عنوان «مذبحة الإسكندرية» التى نفذها المحتل ضد أبناء الوطن من المسيحيين عقابًا لهم على وقوفهم مع الثورة.

٣ - مع سعد.. ذلك أفضل 
قررت مصر فى العام 1919 أن تثور ضد المحتل باحثة عن نعمة التحرر، رأس حربة الثورة كان هذا الشعب الصابر الصامد، أما أجنة الثورة فكان على رأسها سعد باشا زغلول ومعه من المسيحيين مكرم عبيد وفخرى عبدالنور وشقيقه لبفيب عبدالنور وويصا واصف المحامى وتوفيق أندراوس وسينوت حنا وجورج خياط وعزيز منسى وجورج دوماتى وغيرهم من أكابر ووجهاء المسيحيين. وعندما اندلعت الثورة تسابق الشعب إلى نيل الشهادة وأعلن الجميع أن مصر بعد الدين دين، وأن الوطن الحر المستقل هو وطننا معًا ومن أجل حريته تهون دماؤنا، ولقد حاول المحتل التلاعب بورقة الدين، ولكن تلاعبه قوبل بعاصفة رفض من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، ويكفى أن نقول إن القسيس سرجيوس صعد منبر الأزهر الشريف ليقول من فوقه بأعلى صوته: «إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط فأقول ليمت القبط وليحيا المسلمون أحرارا». 
 
والذى يعود لتاريخ المؤرخ الأستاذ عبدالرحمن الرافعى سيجد آيات من آيات التضحية والفداء قدمها مسيحيو الثورة، ويهمنا الآن وهنا الإشارة إلى حادثة لها دلالتها فبعد عودة سعد باشا زغلول ورفاقه من المنفى زار بصحبة واصف غالى وعاطف بركات وسينوت حنا وغيرهم مقابر الشهداء المسلمين الذين استشهدوا برصاص الإنجليز فى فترة الثورة، ثم توجه لزيارة قبر أحد الشهداء المسيحيين ووقف على قبر الشهيد وقال: «إنى أتوجه إلى هذا القبر الذى يضم تلك النفس الكريمة، والذى أعتبره رمزا لجميع تلك الأرواح الطاهرة التى فاضت وشرّفتنا، وأعلت قدرنا، وبيّضت وجوهنا، ورفعت ذكرانا، فيا أيتها الأرواح الطاهرة نامى هادئة، فقد خلفت من ورائك رجالا، يعملون على رفع لواء الوطن وتأييد اسمه وإنالته الاستقلال التام».
 

٤ - لا فى قلبى ولا عينى إلا فلسطين

غرس الاحتلال ذلك السرطان المسمى بإسرائيل فى قلب الوطن العربى، وحدثت المواجهة الأولى على مستوى الجيوش النظامية بين العرب بقيادة مصر وعصابات الصهيونية فى العام 1948، وكان المسيحيون فى قلب المعركة جنودًا وضباطًا على جبهات القتال، مشاركين لإخوانهم المسلمين فى معركة ستكون فاتحة لمعارك، وقد مهد المسيحيون المشاركون فى تلك المعركة الطريق لأبناء وأحفاد سيأتون بعدهم ليواصلوا حمل راية الكفاح والنضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وقد حفظت لنا السجلات الرسمية أسماء أبرز شهداء المعركة الأولى من المسيحيين وعلى رأسهم شوقى نيقولا دميان واستشهد فى الثالث والعشرين من شهر فبراير من العام ذاته، ثم اليوزباشى فليب حنا بقطر الذى استشهد فى الواحد والثلاثين من شهر يوليو من العام نفسه، ثم الملازم أول أنطوان إبراهيم جرجس الذى استشهد فى الثامن من شهر يوليو من العام 1984، ثم نجيب إسحق ميخائيل الذى استشهد فى الرابع من شهر يناير من العام 1949.

 

٥ - يناير الأولى.. القتال حتى الموت 
 

بين شهر يناير وبين توق المصريين للحرية أوثق الصلات، ففى الخامس والعشرين من يناير من العام 1951 قرر ثمانمائة جندى وضابط شرطة التصدى لقوات الاحتلال البالغ عددها سبعة آلاف محارب.
 
قوات الاحتلال البريطانى كانت قد طوقت مبنى محافظة الإسماعيلية، وخيرّت رجال الشرطة المصرية بين الاستسلام وإلقاء السلاح وبين هدم مبنى المحافظة فوق رءوسهم.
 
سلاح الشرطة المصرية كان غاية فى البؤس، لم يكن يزيد على البنادق العتيقة المتهالكة، جرى حب الشهادة فى عروق رجال شرطتنا، فاجتمع قائد القوة اليوزباشى مصطفى رفعت، مع مساعده الملازم أول عبدالمسيح مرقص، وقررا المواجهة حتى الموت وعدم الاستسلام، خرج الرجلان من غرفة الاجتماع ليبلغا القرار لباقى أفراد القوة، وهنا تقدم الملازم عبدالمسيح وصاح: «لست مسلما لكنى أقرأ معكم الفاتحة على القتال حتى الموت وعدم الاستسلام».
 
قاتلت الشرطة المصرية قتال الأبطال، حتى أن قائد قوات العدو وبعد انتهاء المعركة أدى التحية العسكرية للقائد المصرى الذى سجل بقواته المتواضعة نصرًا حاسمًا على صعيد الصمود والصبر والثبات. 
 
بدأت المواجهة بين شرطة فقيرة التسليح وبين العدو المدجج بأحدث سلاح زمانه، انتهت المواجهة بانتصار الدم على السيف، انتصار القيمة، انتصار المعنى، نعم تمكن العدو من احتلال مبنى المحافظة ولكن قائد قواته أبهرته شجاعة المصريين وثباتهم حتى أنه أدى التحية العسكرية للقائد المصرى الذى خسر معظم قواته، ولكنه لم يخسر إقدامه ورسوخه.
 
ثم جاء المؤرخ الأستاذ عبد الرحمن الرافعى ليسجل قائمة بأسماء شهداء معركة الإسماعيلية، وستجد فى القائمة أسماء الشهداء المسيحيين وعلى رأسهم إبراهيم مرقس جرجس، من إيتاى البارود.
 
لاحظ أن معركة الإسماعيلية كانت الفاتحة لثورة يوليو التى خلصت الوطن من الاحتلال.
 

٦ -  وجاء العبور
 
بعد الخامس من يونيو لم يستسلم المصريون، فكانت معركة رأس العش، بعد الكارثة بأيام لكى يثبت المصريون لعدوهم أنهم لم يموتوا، نعم خسروا معركة ولكن أيام الحرب طويلة، فكانت سنوات معركة الاستنزاف التى برهن فيها الجيش المصرى على أنه جيش صابر صامد يستطيع قلب المعادلة فى لحظة، ومن رحم سنوات الاستنزاف جاء يوم العبور الخالد، ليتوج جهاد سنوات. هنا والآن يهمنا الوقوف عند نموذج لامع يعد بأى مقياس منصف من آباء العسكرية المصرية، التى هى العسكرية العربية فى أبهى صورها، نموذجنا هو اللواء «شفيق مترى سدراك» صعيدى من أسيوط من جيل عبدالناصر، جاءت لحظة المواجهة مع العدو الصهيونى فتصدى اللواء شفيق وكان قائدًا للواء 3 مشاة ميكانيكى الفرقة 16 مشاة، لقوات العدو، وتوغل منتصرًا بقواته فى عمق سيناء الحبيبة ليطهرها من رجس الاحتلال.
 
حمل اللواء شفيق فوق كتفيه تاريخه الناصع فى الخدمة العسكرية، فقد شارك فى كل مواجهة مع العدو منذ العدوان الثلاثى، كما حمل روحه بين كفيه وواصل توغله، إلى أن فاز برتبة الشهادة، كأول شهيد من القادة الكبار، وكانت شهادته فى اليوم التاسع من أكتوبر وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على بدء ملحمة العبور.
 
وعن موقع «المجموعة 73 مؤرخين» أنقل هذه القصة التى تقول: كانت حروب مصر بطولات لكل المصريين، مسلمين ومسيحيين، ينصهر الجميع فى بوتقتها، يتحدث عن ملمح لها اللواء حاتم عبد اللطيف «النقيب أثناء حرب أكتوبر» فيقول: كنت قائد المجموعة الرابعة اقتحام، وتضم 58 جنديًا مسلمًا ومسيحيًا، وكان الشاويش صبحى ميخائيل ضمن جنود المجموعة، وعندما طلبت المجموعة لإخبارهم بموعد الحرب، وقراءة الفاتحة، طلب منى ألا تكون قراءتها فى صمت، وإنما أقوم أنا بتلاوتها بصوت مرتفع.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق