إن أردتم هزيمة الإرهاب

الثلاثاء، 18 أبريل 2017 04:18 م
إن أردتم هزيمة الإرهاب

هزيمة الإرهاب غير استثمار الإرهاب، ومصر قادرة بعون الله على سحق الإرهاب والإرهابيين، ليس فقط بإنشاء مجلس أعلى جديد لمكافحة التطرف، ولا بإعلان حالة الطوارئ الأمنية وحدها، بل بطوارئ سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، تعيد تشكيل صورة مصر، وتسترد هيبة الدولة بالعدل الذى هو أساس الملك الصالح.

وقد نتمنى ألا تستمر حالة الطوارئ المفروضة طويلا، وألا تتجاوز زمن الثلاثة شهور التى قررها الرئيس، والدستور عموما لا يسمح باستمرار فرض الطوارئ لأكثر من ستة شهور متصلة، واحترام الدستور هو جوهر أى نظام سياسى يحترم نفسه وشعبه، ومد الطوارئ لفترات أطول لا يفيد، وقد يعطى انطباعات خاطئة عن حقيقة الوضع فى مصر، وقد يؤثر سلبا على جهود إنقاذ اقتصادها المنهك، وقد يصور مصر كبلد غير آمن على غير الحقيقة، وتلك كلها تعقيدات مصر فى غنى عنها، وقد يقولون لك إن الطوارئ تفرض فى أى مكان بالعالم، ولأوقات محددة كما جرى فى فرنسا، ولأسباب طارئة، تزول الطوارئ مع زوالها، وهذا كله صحيح من حيث المبدأ، لكن التطبيقات تختلف، ومعها مدى توافر الحريات العامة المستقرة، ومستويات الاتزان والضبط المتبادل بين مؤسسات التنفيذ والتشريع والقضاء، وهو ما يجعل الطوارئ عموما شرا لا بد منه إن اقتضت الحاجة، نطمع أن يذهب سريعا مع كسر حدة الشرور الإرهابية، لا أن يجرى استسهال فرض ومد الطوارئ، وعلى النحو الذى عاشته مصر لثلاثين سنة متصلة زمن المخلوع مبارك، وظلت فيه حالة الطوارئ سارية منذ اغتيال السادات إلى خلع مبارك، ودون أن تحقق نفعا لمصر ولا للمصريين، بل كانت قرينا لأحوال التدهور والانحطاط العام، وتزايد موجات الإرهاب المتدثر زورا بالدين، والذى وصل إلى ذروته الدامية فى سنوات التسعينيات من القرن الفائت، ثم انتقلت عملياته الإجرامية إلى سيناء فى أواسط العقد الأول من القرن الجارى، ولم تثمر طوارئ الثلاثين سنة سوى المرارات والخيبات والكوارث، بدهس الحريات العامة، والخراب الاقتصادى بالنهب غير المسبوق فى تاريخ مصر الألفى، وانسداد الأفق السياسى، وانتفاخ تيارات اليمين الدينى التى سيطرت على المجتمع، مقابل انشغال مبارك وعائلته ومنتفعيه بدواعى السيطرة على كراسى السلطة، وتصوير أمن العائلة كأنه أمن الدولة «!».
 
والمعنى ببساطة، أن حالة الطوارئ قد تفرضها احتياجات طارئة، وعلى النحو الذى جرى فى مصر أخيرا، مع صدمة العملية الإجرامية المزدوجة فى كنيستى طنطا والإسكندرية، والتى هدفت إلى اغتيال البابا تواضروس رأس الكنيسة المصرية، وتحويل الاحتقان الطائفى إلى حرب طائفية، ودفع المسيحيين إلى الهجرة من مصر، وتهيئة الأوضاع لتدخل أجنبى بدعوى حماية الأقباط المهددين، وهو ما قدر الله ألا يحدث، ولن يحدث أبدا، ببركة تماسك النسيج الوطنى الاستثنائى فى مصر، وبفضل اليقظة الأمنية النسبية أمام كنيسة «مارمرقس» فى الإسكندرية بالذات، والتى حالت دون وقوع مصيبة المس بحياة البابا، وقدم فيها رجال ونساء الأمن تضحيات بطولية، امتزج فيها دم المصريين بغير تفرقة بين مسلم ومسيحى، وهو ما يلفت النظر إلى نقطة غاية فى الوضوح والأهمية، فيقظة الأمن هى الأساس، وسواء كان يعمل فى ظروف عادية، أو فى ظل أحوال الطوارئ، وهو ما بدا ظاهرا فى يوم «أحد السعف» الحزين، فالنجاح النسبى الذى ظهر فى الإسكندرية، قابله الإخفاق الكامل فى حادث التفجير الانتحارى بكنيسة «مارجرجس» فى طنطا، وبما أدى إلى إقالة مدير أمن محافظة الغربية، وقد تذهب لاحقا رءوس أكبر بجريرة التقصير الفادح، لكن يبقى ما هو أهم من الإقالات والتعديلات والتغييرات فى المناصب، وهو أن تكون طوارئ الثلاثة شهور فرصة لمراجعة شاملة، يعاد فيها النظر البصير بأحوال جهاز الأمن الداخلى، فالحرب ضد الإرهاب ليست حربا تقليدية، ولا تجدى فيها كثافة الأعداد والحشود الأمنية، ولا الإيحاء الفارغ من المعنى بقوة الأمن العضلية، ولا كثرة الاعتقالات العشوائية، التى تخلق من المظالم أكثر مما تجلب من المنافع، وتزيد من حدة الاحتقان فى المجتمع، وكلها أساليب ثبت خطؤها وفداحة آثارها، والتعلم من الأخطاء هو ما يميز الإنسان العاقل والدولة العاقلة، فلم يكن تكتيك الإرهاب مختلفا فى حادثتى طنطا والإسكندرية، وكان تكرارا بالحرف لما جرى قبلها فى حادث الكنيسة البطرسية بالقاهرة، ومع ذلك، ظلت الأخطاء هى نفسها، وكأننا بصدد إعادة عرض لفيلم سخيف، لا معنى ولا عظات فيه، ولا عبر نتعلم منها، اللهم إلا على نحو نسبى فى حادث الإسكندرية، وهو ما قد يصح أن يكون مثالا لليقظة المطلوبة، وإحكام الإجراءات لا التظاهر باستعراض العضلات، فالحرب ضد الإرهاب عمل وقائى بالدرجة الأولى، وينجح الأمن فيها بمقياس وحيد، هو تقليل الخسائر البشرية إلى أدنى حد حين المفاجأة، والتقدم إلى إجهاض العمليات الإرهابية قبل وقوعها، بشبكة معلومات هائلة، واختراقات منظمة لجماعات الإرهاب الخسيس، فالمعلومة فى حرب الإرهاب أهم من الطلقة، والقبض على الإرهابيين أجدى من قتلهم، ودفن أسرارهم معهم، وتحديث جهاز الأمن أولى من تضخيمه، والتسلح بالتكنولوجيا أهم من البنادق والرشاشات، وقد خاضت مصر حربا مريرة ضد جماعات الإرهاب الأكثر شراسة فى شمال شرق سيناء، قام فيها الجيش بالدور الأساسى، وحرم الإرهابيين المهووسين من السيطرة على شبر أرض، وهو ما لن يكون أبدا ما دام لمصر جيشها وشعبها، وهو ما دفع الإرهابيين ومن يمولونهم، وبدعم وتخطيط من مخابرات دول كبرى وصغرى، إلى الهروب المتتابع من سيناء، ومحاولة اختراق الدلتا المصرية كثيفة السكان، والتركيز على ضرب وترويع المسيحيين والكنائس، بوهم أنهم الحلقة الأضعف فى سلاسل التحصينات المصرية، وبتصور إمكانية تهديد الكيان المصرى، وكلها تكتيكات قديمة جديدة، تشرح وتفضح نفسها بنفسها، وتحصل على دعم لوجيستى من تيارات اليمين الدينى الكامن والظاهر، وما من سبيل لمواجهة عاجلة ناجحة، بغير تجديد جهاز الأمن، وجعل الأولوية للتكنولوجيا والمعلومات واستباق خطط الإرهابيين، وخلق جهاز أمن أرشق وأذكى.
 
وقد يكون تطوير عمل جهاز الأمن هو المطلوب العاجل، ومصر تستحق بلا إبطاء جهازا أفضل، ولا يصح التذرع بدعوى ضيق الموارد المالية، فلا شىء يصرف عليه فى مصر أكثر من الأمن، والمطلوب: تصرف أدق وأذكى بالموارد المتوافرة، ثم الوعى بأن خطر الإرهاب ليس قضية الأمن وحده، فقد تحول الإرهاب إلى عملة دولية، وإلى أداة تحطيم لدولنا ومجتمعاتنا العربية بالذات، ومهما بلغ إحكام عمل أجهزة الأمن، فليس من ضمان نهائى لمنع حدوث اختراقات إرهابية متقطعة، وتقويض منظمات الإرهاب لا ينهى الخطر تماما، فهنالك فرصة دائما لعمل ما يسمونه «الذئاب المنفردة»، وهو ما يعنى أن الحرب ضد الإرهاب ممتدة بطبيعتها، وجوانبها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تبدو الأهم، وقد يتصور بعضنا أن القضية فكرية محضة، وأنها حرب على تفاسير الإسلام، وأن نشر تفسيرات صحيحة ومتجددة ينهى الخطر، وأن ما يسمى «تجديد الخطاب الدينى» هو الحل، وهذا كلام يفتقر إلى الدقة، وإن كان التجديد الدينى مطلوبا فى كل وقت، لكن التجديد لا يؤتى أكله فى بيئات التبديد، وفصل التجديد العقلى عن تجديد الحياة هو الخطأ القاتل، فلا قيمة لآلاف المؤتمرات والمنشورات والخطب فى بيئات مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ما قد يصح أن نلتفت إليه بشدة، وأن نحصن الدولة والمجتمع، فإعلان الطوارئ الأمنية والدينية لا يكفى وحده، ولا بد من طوارئ جديدة فى السياسة والاقتصاد بالذات، وخطر الفساد مثلا أعظم بمراحل من خطر الإرهاب، بل أن الفساد هو الذى يغذى نزعة الإرهاب، فالفساد نخر بدن الدولة فى مصر، وأصابها بمرض الإيدز المحطم للمناعة، وجعل الدولة «شبه دولة» بتعبير الرئيس السيسى نفسه، ثم أن توحش الفساد يزيد من معدلات اليأس العام، ويقتل الأرواح، ويفاقم أحوال اللا مبالاة العامة حتى بالحرب ضد الإرهاب، ويفكك وشائج «العروة الوثقى» بين المصريين ووطنهم العظيم، فالوطنية ليست أغنيات ولا شعارات ضجيج، وأبسط معانى الوطنية المصرية هى خوض حرب شاملة لكنس الفساد، وتطهير جهاز الدولة، وتحطيم تحالف مليارديرات المال الحرام مع مماليك الفساد داخل جهاز الدولة، وتحرير البلد من استعمار الفساد، والمراجعة الشاملة للاختيارات الاقتصادية الخاطئة، ووقف محاباة النهابين على حساب أغلبية المصريين العظمى من الفقراء والطبقات الوسطى، والتقدم إلى تصنيع شامل، بخلق فرص عمل دائمة منتجة لملايين العاطلين، وتحرى العدالة فى توزيع أعباء انقاذ الاقتصاد المنهك، وبناء دولة القانون والحريات، فالشعب الحر وحده هو القادر على اقتلاع جذور الإرهاب، والعدل الاجتماعى هو أقصر الطرق لهزيمة الإرهاب، هذا إن أردتم أن تفعلوها بثقة الواثق بنصر الرب والشعب، وليس على طريقة الحرث فى البحر.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق