حمدي عبد الرحيم يكتب:
الذين يحبون هم الذين يتشخرمون
الخميس، 23 مارس 2017 02:58 م
حَبَ، يحب، حبًا، إذن حَزن يحزن حزنًا، الأمران قرينان، تحب فتحزن، وهذا ما وجدته في كتابات المازح (أفضلها على الساخر) الكبير أسامة غريب، غريب حزين لأنه يحب، أحب بلده فرمته بعبد العاطي صانع المعجزات على الجرائد والفضائيات، أحب أم كلثوم فأحزنته وهي تنسف قدرات الفرد الفذ المعروف لدينا باسم محمد القصبجي، أو قصب كما كانت تناديه الست.
حزن أسامة نبيل شفاف، لا يجعله بائسًا ينشر البؤس واليائس على قلوب الناس، لقد جعله حزنه مازحًا، يعود برأسه إلى الوراء ثم يطلق ضحكة أو مقالًا يقاوم بهما جيوش الإحباط التي تنتشر وتتوغل وتسيطر.
في أحدث كتبه «أجهزة النيفة المركزية» تظهر بوضوح أحزان غريب وضحكاته المقاومة، لو تأملتَ العنوان جيدًا فحتمًا ستضحك، قد تنتهي ضحكتك بالدموع ولكن دموعك تخصك وليست ذنب غريب، أنتَ عندما تسمع كلمتيّ أجهزة ومركزية فإن ذهنك سينصرف فورًا إلى أشياء خطيرة وجليلة، أشياء تربطها أوثق العلاقات بكل ما هو نووي أو ذري، الجملة ستصبح في ذهنك «أجهزة الطرد المركزية» فيأتي أسامة غريب فيعلو فوق سخافات دعاية الجهاز الذي سيجعل فيروس سي، إصبع كفتة، ويُنزل الأمر منزلته، فنحن أمام عبث، ومن العار على مازح مثل أسامة غريب أن يواجه العبث بالعبوس، فإذا كان عبد العاطي سيجعل الفيروسات كفتة، فلماذا لا نستعير من إيران أجهزة الطرد المركزية التي تخلت عنها ونعهد بها لعبد العاطي فينتج لنا من خلالها نيفة تجري بذكرها الركبان.
قسّم غريب كتابه إلى أحد عشر فصلًا رئيسيًا، وتحت كل فصل وضع عدة مقالات يربطها رابط التجانس والتناغم، وقد استوقفني كثيرًا الباب المعنون بـ«فنانون ونبلاء» وفيه تناول غريب فنانين من الوزن الثقيل، يكفي أن تقرأ ما كتبه عن محمد فوزي أو شكوكو أو فتحي قورة أو عبد الوهاب أو عبد الحليم أو عن ثومة والقصبجي، فتعرف ذائقة غريب النادرة التي تذهب إلى العمق ولا تهاب أن تقول كلمتها وليكن ما يكون.
في فصل من فصول «فنانون نبلاء» يتسلطن غريب حتى يصل إلى حكمة الكتاب إن لم تكن حكمة الكون «الذين يحبون يتشخرمون» والشخرمة تعبير مصري قح ومعروف الدلالة.
لقد أحب الموسيقار القصبجي أم كلثوم وصعد بها ومعها إلى سماء من الفن الصافي (اسمع رق الحبيب وستصدقني) ثم تركته بل ركلته الست، ولم تعهد إليه بأغنية ثانية، فقاوم قليلًا عبر أصوات أسمهان وليلى مراد وغيرهما وقدم شيئًا من فنه النادر، ثم استسلم (لأنه يحب) لرأي أم كلثوم التي نزلت به من موسيقار إلى قائد فرقة، ثم هبطت به من قائد فرقة إلى مجرد عوّاد في فرقتها، ثم لم تلتفت إليه ثانية، وقد حدث كل ذلك لأن المحبين يتشخرمون، فاعمل بنصيحة أسامة غريب وكن على حذر من حب يرميك في قاع الهلاك.