قطار المناشي.. ساعات في «مملكة العرق» (فيديو وصور)
الخميس، 26 يناير 2017 12:17 م
1:45 ظهرًا.. وجوه تمر أمامك من كل صوب وحدب.. منهم من يحمل حقيبته في يده وآخر على ظهره، في حركة سريعة كأن أحدا يراقبه ويحاول الهروب منه، تنتظر صف المرور من البوابات الإلكترونية، تسمع صوتًا متكررًا: «الشنطة يا أستاذ.. الشنطة يا هانم».
هنا محطة رمسيس.. تستطيع بنجاح بعد مرور بضعة دقائق في تخطي البوابة الإلكترونية لتجذبك عيناك إلى صالة شاسعة إلى حد ما.. تقف لبرهة محاولًا سؤال أحد المارة عن قطار «المناشي»، ولكن سرعة تحرك المارة تجعلك عاجزًا عن النطق خاصة وإن كنت جديدًا في هذا المكان.
تستطيع بعد جهد أن يخبرك أحدهم وهو يبطئ حركته ويجعلك تقرب خطواتك منه كأنك تمشي وراءه: «هتاخد رصيف 4 وتمشي وتاخد شمال في يمين هيقابلك نفق انزله هتطلع على رصيف 12»، ويعيد تحركه بسرعة قبل أن تسأله: «طب هو فين رصيف 4».
تحاول- جاهدًا- مستخدمًا حسك البصري في قراءة أي لافتة تجعلك تعرف أين الطريق، وبعد ذلك تسلك طريقك، وتصل إلى النفق وتنجح أخيرًا في الوصول إلى رصيف 12.
بعد مرور 15 دقيقة.. تطأ قدماك أول بلاطة في رصيف 12.. يقع على مسامعك أن القطار سيتحرك من مكانه في 2:30 ظهرًا، تلتفت بعينيك بحثًا عنه، لتجد59 عربات.. أصفر لونها لا يسر الناظرين.. تقترب خطواتك لتلحظ عيناك اللون الأصفر يعاني من تشوهات كتابات طلبة المدارس والجامعات، أسامٍ ورسومات قلوب لبعض المحبين، نوافذ بدون زجاج، يخرج منها رؤوس ذات وجوه عابسة، تترك القطار نافر منه لتجد أناس من كل جنس ولون يتهافتون على محاولة اللحاق بأي مكان في القطر.
تقترب من أحد الأبواب.. تجد عدد من الركاب يدخنون بالقرب من الباب في انتظار تحول الإشارة من الأحمر إلى الأخضر ليسمح بتحرك القطار.. وأعينهم تسخر من محاولتك دخول القطار معرفة منهم وجهلا منك.
تحاول أن تدخل لعربة إن استطعت، نظرًا لتكدس الركاب لدرجة أنه ليس هناك أي مساحة لقدم واحدة فقط.. وجوه عابسة، لا تستطيع أن تحكم عليها هل التكدس وسوء المرافق السبب؟ أم شؤون حياتية مرتبطة بكل شخص على حدة، ليقطع كل هذا العبس «بائع متجول» بصوته المنفر: «لعبة بـ 2.5 لعبة لحمادة وأخته ميادة»، لتتعالى الضحكات على طريقته الكوميدية.
قطار «المناشي».. المشهور بلونه الأصفر دونًا عن باقي القطارات الأخرى، وتذكرته تعد الأرخص في هيئة السكة الحديد، وسيلة الطلبة والموظفين لنقلهم من محافظاتهم إلى مقرات عملهم.. رحلة عناء وعذاب- كما يصفها البعض- يخوضها ركابه، تبدأ من محاولة الوصول قبل ميعاد تحركه بنصف ساعة على الأقل لمحاولة الحصول على «كرسي» فارغ.. وآخرون يحاولون البعد عن التكدس بإخراج رؤوسهم من نوافذ شبه غير آدمية بدون «زجاجها» محاولة منهم في استنشاق هواء نظيف بعيدًا عن رائحة العرق، وطرف ثالث يقف يدخن آخر سيجارة بجوار باب العربة قبل تحرك القطار.
بكاء يتلوه صراخ.. عيون زائفة تتخلل هذه الوجوه البائسة، بكاء الأطفال الذين يندهشون من هذا العدد المهول وأشكال وجوه- بالنسبة لعمرهم- غير المألوفة، وعيون زائفة تنتظر صافرة تحرك القطار.
2:30 عصرًا.. يبدأ القطار في التحرك، فترصد بوابة «صوت الأمة» رحلة ركاب قطار «المناشي» خط «رمسيس- إيتاي البارود»، من محاولة الحصول على مكان شاغر للجلوس الذي قد يتطور- أحيانًا- إلى مشاجرة بالأيدي، مرورًا بالبائعين المتجولين الذين ينجحون- رغم التكدس- في المرور من عربة إلى الأخرى في سهولة مثلهم مثل لاعب كرة القدم الذي يجيد مراوغة أكثر من مدافع في آنٍ واحد وينجح في الوصول إلى مرمى المنافس بسهولة، مرددين كل على حدة: «ضهرك يا أستاذ.. كتفك يا حضرة.. شاي بجنيه.. نسكافيه بجنيه.. شاي يا حضرة.. منديل بجنيه.. محفظة جلد طبيعي بـ7.5 والولاعة ما بتكدبش.. ترمس يا باشا.. سلّي طريقك يا أستاذ».
تعب وإرهاق جعل ركاب القطار الجالسين، لا يحاولون مساعدة سيدة تقف في طريق المرور بالعربة وتحمل على كتفها طفلتها الرضيعة، وتبحث عينيها في عين أي رجل «شهم» قد يحرجه نظراتها في الوقوف وجلوسها مكانه.
نوافذ بدون زجاج، يملؤها الركاب أحيانًا بورق «الكرتون» تجنبًا لشدة البرد، وأبواب مفتوحة نظرًا للتكدس ووقوف بعض الركاب بقدم واحدة فقط عليها، تنتقل «صوت الأمة» بين الركاب بصعوبة محاولة الوصول إلى عربة أخرى، تجد فواصل العربات التي توحي لك- إن كنت حديثًا في مهنة القطارات بحسب الركاب- بأن قد تتسبب في حادث يودي بحياة أبرياء لا ذنب لهم في ذلك، تركز قليلا لتتصيد أنفك- دون قصد- رائحة كريهة تعكس على وجهك الشعور بالنفور والقرف، ليلاحظك أحد الركاب، فيرد ساخرًا: «دي ريحة الحمام يا أستاذة.. أنتي أول مرة تركبي قطر ولا إيه».
«وزير النقل لازم يمشي».. هكذا يبدأ حديثه أحد الركاب، مضيفًا: «نعاني كل يوم في القطر وبنفضل واقفين طول الطريق»، فيما يعلق آخر: «عادي لو التذكرة زادت بس مش كتير طالما هنلاقي مكان نعد فيه وشبابيك بدل اللي مكسره».. وفي نظرة من الحسرة على ما يعانون منه كل يوم حسب وصفه يكمل: «القطر بيجي 4 أو5 عربيات بس والناس فوق بعضها زي ما أنتم شايفين وكده رايق ومواعيده بايظة»، وفي حالة من الغضب تقول: «التذكرة زادت بعد جنيه بقت بجنيه ونص في القطر لحد المناشي بس، وبعد كده بتوصل لـ3 جنيه ونص».
يقف القطار في أولى محطاته ولا تعرف كم استغرق أو موعد وصوله نظرًا لصعوبة رفع يدك لرؤية عقارب الساعة.. يتدافع الركاب القتراب من الباب للنزول من القطار قبل وقوفه، وتتوالى المحطات.
وأجمع الركاب على أن القطار بمثابة رحلة موت وعذاب لهم يوميًا، مؤكدين أن ليس لديهم أي مانع من زيادة سعر التذكرة في مقابل وجود مقعد ونافذة تحميهم من برودة الشتاء القارص.
وتأتي لحظة النزول في آخر محطة.. وسط الزحام ومعاناة الوصول إلى باب القطار المنتهية صلاحيته واختفاء شهامة الرجل في عبور النساء أولا، لتجد كارثة أخرى وهي لهو الأطفال بالدراجات على رصيف المحطة، بجانب تعطيل القطار بسبب «عربة كارو» على القضبان تعيق حركته، وتظهر شهامة الرجال مرة أخرى لإزاحة الـ«كارو» من طريقه، ويودع القطار الرصيف، وفي نظرة أخيرة له قبل المغادرة تجد صوتًا من خلفك: «ضهرك يا أستاذة عاوزين نشوف أكل عيشنا.. اشتري لعبة لحمادة وأخته ميادة».