ارحموا أهرام أبونا !
الجمعة، 13 يناير 2017 12:57 م
منذ عامين سافرت إلى أيسلندا في رحلة لم تكن طويلة، وكانت درجة الحرارة في هذه الفترة «شهر ديسمبر»، ما بين 12 تحت الصفر والصفر، ورغم البرودة القارسة ليلًا إلا أنني كنت أستمتع بالتجوال في شوارعها، مستعينًا بمعطف ثقيل، فيما أضع حول رقبتي كوفية من الصوف والتي سقطت دون أن أشعر بها.
في اليوم التالي، بدأت جولتي مع صديقي الأيسلندي يون بيلدور، وهو في أواخر الأربعينيات، شخصية مرحة ومثقفة جدًا، وأيسلندا بالنسبة له هي روحه وحياته، وحبه لها يجعله يتحدث عنها دائمًا وهو فخور وسعيد بتلك الجزيرة الصغيرة، و«يون» لا يتوقف عن التحدث عن كل مكان نمر به حتى لو كان بيتًا صغيرًا لأحد المشاهير، فعندما تجلس معه تشعر بأن أيسلندا هي معشوقته وقصة حبه الأول والأخير التي يُريد أن يحكي عنها طول الوقت.
وقبل أن نتحرك من أمام الفندق وقبل أن أركب السيارة أخذت نظرة سريعة في محيط الفندق، بحثًا عن «الكوفية» فسألني يون «هل تبحث عن شيء؟» فأخبرته دون أن أقصد عما أبحث عنه، فأصر على أن نسير في الطريق نفسه الذي كنت أسير فيه بالشوارع المجاورة للفندق.
ورغم ثقته أننا سنجدها، إلا أننا لم نجدها، وظل يعتذر لي وكأنه السبب في ذلك، وعندما وصلنا بيته لتحية زوجته التي لم ألتقها من قبل، استقبلتني بحفاوة شديدة، وعلى ما يبدو أنه روى لها حكاية الكوفية عبر الهاتف، فوجدتها تُهديني أخرى جديدة وهي تعتذر، وشعرت وكأن واقعة أن تفقد شيئًا ولا تجده مرة أخرى، فعلًا لم تحدث من قبل!.
لم يكن كل هذا هو المفاجأة بالنسبة لي، بل المفاجأة الحقيقية عندما عدتُ إلى الفندق بعد أن انتهت جولتنا، وجاء موعد الغداء فذهبت إلى مطعم الفندق الذي وجدته مزدحمًا على غير العادة، وفي لحظة دخولي كان «يون» ينتظرني وزوجته وأصدقاؤه وقبل أن أجلس لفت انتباهي وجود صندوق كبير مُغلف على الطاولة المجاورة، اعتقدت أن هناك احتفالًا بعيد ميلاد، وفجأة وقف الجميع، وبدأت عازفة البيانو تعزف مقطوعة كلاسيكية، وتجمع كل من في المطعم حولي والتفوا حول الصندوق وقدموه لي، وطلبوا مني فتح الصندوق، ومع حالة الذهول التي شعرت بها لأنني لا أعلم ما هي المناسبة لتقديم تلك الهدية، فتحت الصندوق الذي كان داخله عدة صناديق أخرى، ربما أكثر من عشرة صناديق، وكنت أفتح الواحد تلو الآخر والجميع يردد 9،8،7 وهكذا إلى أن وصلت إلى الصندوق الأخير رقم واحد، لأجد «كوفيتي» المفقودة، وأخرى جديدة، مع خطاب يحمل توقيعات جميع الحاضرين، وكُتب باللغة الإنجليزية ما معناه «لم نكن لننام قبل أن تعود لك كوفيتك.. مرحبًا بك في أيسلندا.. تذكرنا دائمًا».
لا أعلم لماذا تأثرت كثيرًا بهذا المشهد وكدت أبكي، ليس تأثرًا بما فعلوا، ولكن تأثرًا بما نفعله نحن في أنفسنا، وتذكرت زيارتي للأهرامات بصحبة ابنتي، وحالة الرعب التي أصابتها نتيجة مشادة عنيفة بيني وسائق «الكارتة»، وهذه المشاهد ليست بجديدة أو بعيدة عن المسؤولين، الذين نناشدهم بأن يرحموا «أهرام أبونا» من هؤلاء، وبعيدًا عن أسباب وتفاصيل تلك المشادة العنيفة، فإن النتيجة كانت أن ابنتي نسيت كل شيء استمتعت به خلال زيارتها الأولى للأهرامات، وعلق في ذاكرتها فقط مشاهد المشادة، مثلما حدث معي في أيسلندا نسيت كل شيء وأتذكر دائمًا تلك الاحتفالية التي شارك فيها أناس لا أعرفهم، فقط من أجل ألا أتذكر يومًا أنني سافرت إلى أيسلندا وفقدت «كوفيتي».
ومن الأشياء المثيرة للدهشة في أيسلندا، رغم ما حدث معي، أنه في الوقت الذي تسعى فيه السلطات الأيسلندية للتعاون مع شركات السياحة العالمية الكبرى بغرض المساهمة في تعزيز السياحة باتجاه الجزيرة، تجد السكان يرفضون ذلك على اعتبار أن هذا قد يؤدي إلى تدهور المناظر الطبيعية وبعض المرافق المهمة، لذلك كان ما فعلوه معي مفاجأة لي كوني أعرف أنهم لا يرحبون بتعزيز الحركة السياحية.
لقد تابعت احتفالية وزير السياحة، وعدد من الشخصيات العامة بمناسبة بدء العام الجديد 2017، فى إطار مشاركة مصر دول العالم الاحتفال بالعام الميلادي الجديد، من فوق سفح الأهرامات، تلك الاحتفالية التي شهدت إضاءة الأهرامات الثلاثة وأبو الهول بالأنوار وعروضًا للألعاب النارية.
وكما جاء في التصريحات الرسمية أنها تستهدف إرسال «رسالة سلام» للعالم من سفح الأهرامات، فأنا لست ضد كل هذا، على العكس هي خطوات جيدة، لكن الرسالة الحقيقية التي تظل عالقة في ذهن السائح تأتي ممن يلتقيهم، وعبر المواقف الإنسانية للأشخاص الذين يشكلون رحلته في مصر، فكل العالم يعرف أن لدينا حضارة عمرها أكثر من سبع آلاف سنة، ولدينا أهرامات من ضمن عجائب الدنيا، سواء أضأناها أم لم نُضئها.
الإضاءة الحقيقية معالي الوزير يجب أن تكون في قلب كل إنسان يلتقيه السائح منذ أن تطأ قدماه أرض مصر إلى أن يُغادرها، فالإضاءة الحقيقية يجب أن تكون عبر توعية كل هؤلاء وتدريبهم على التعامل مع السائحين، وأن يعلموا أن كل مليون سائح يدخل مصر يوفر أكثر من مائتي ألف فرصة عمل، وأن هذا السائح من المصادر الأساسية للعملة الصعبة.
لذلك نطالب معالي الوزير بمحاكمة كل من يتسبب في ترسيخ انطباع سيء لدى السائح ويجبره على اتخاذ قرار عدم العودة مرة أخرى أو حتى يجعله ينقل انطباعًا سيئًا إلى آخرين، باعتباره خائنًا للوطن، كما ندعو إلى سن قوانين تحكم علاقة السائح بكل من يعملون في مجال السياحة، كل هذا معالي الوزير أهم بكثير من إضاءة الأهرام بالألعاب النارية، لقد آن الوقت لكي نضع أيدينا على مشكلاتنا الحقيقية التي تعوق تقدمنا نحو الأمام.
لماذا لا تكون لدينا مادة يدرسها الطلاب من المرحلة الابتدائية يتعلمون عبرها كيف يتعاملون مع السائحين، وتبين لهم أهمية السياحة بالنسبة لمصر والمصريين، وتستعرض نماذج لدول العالم التي يعتمد اقتصادها على السياحة، وكيف أصبحت ناجحة ومتقدمة؟!.. لا بد من ترسيخ كل هذا في أذهان أبنائنا، ولابد من تدريب وتأهيل كل من يتعاملون مع السائحين، ووضعهم أيضًا تحت الرقابة.
وأنصح بزيارة واحدة إلى أي دولة لديها تجربة ناجحة في مجال السياحة، لتعرف معالي الوزير إجابة هذا السؤال العظيم الذي لا نجد له إجابة، وهو: لماذا نملك أكثر من ثُلث آثار العالم، ولدينا كل هذة المقومات البيئية والطبيعية والثقافية والتاريخية والدينية والسياحية التي وهبها لنا الله، وتكفي لتنشيط سياحة العالم بأسره، وليس لدينا سائحون بقدر وحجم كل ما نملكه؟.
كلمة أخيرة:
ارحموا أهرام أبونا
[email protected]