قصة 15 دقيقة قضاها «النبي محمد» في عرفات
السبت، 10 سبتمبر 2016 12:04 م
إذا كنت مع الحق أينما كان، ولا تنظر لمعتقد قائله، ولا لونه، ولا جنسه، ولا عرقه، فيجب عليك أن تقف إجلالًا وتقديرًا لرجل وقف على جبل عرفات، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، يشرّع أول إصدار تاريخى لحقوق الإنسان.
وتعتبر خطبة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، فى حجة الوداع، وثيقة عالمية فى حقوق الإنسان، فالرجل الذى نزل عليه الوحى بجبل عرفات، كى يعلمه بأن قدميه باتت أقرب للآخرة من الدنيا بقوله: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا»، فعرف النبى وقتها أن أجله قد دنا، فلم يرح له بال حتى يفصّل حقوق الإنسان تفصيلًا لا يدع لمجتهد باب كى يمرر قلمه فيه، بالتعديل أو بالتغيير.. رغم وجود القرآن الكريم بين يديّ الصحابة، وتوجيهات الرسول لهم التى استمرت أكثر من عشرين عامًا.
وعلى الرغم من أن وقت الخطبة لا يتجاوز الـ«١٥» دقيقة، إلا أنها جاءت شارحة ومفصلة ولم لا؟ وقد قال النبي: «أوتيت جوامع الكلم».
والمتأمل في خطبة الوداع التى ألقاها النبى منذ أكثر من «١٤» قرنًا يجدها بمثابة الإعلان العالمى الأول لحقوق الإنسان الذى تحدد فى عدة بنود..افتتحها النبى بتوصية الصحابة وجموع المؤمنين بتقوى الله فإنها رأس كل أمر، كما جاء فى الأثر، ثم شدد على حرمة الدماء وعِظم ذنبها، وأن كل الدماء معصومة، سواء كانت مؤمنة بالله وموحدة بعقيدته، أو لم تهتدِ لنور الدعوة، ليؤكد الرسول المعنى القرآنى «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، ليأتى النص النبوى بعدها مطابقًا للإرشاد الإلهى بكلمات النبوة الخاتمة: «أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا - ألا هل بلغت اللهم فاشهد».
فكل من فتح عقله يومًا لنور الفهم والتدبر، يعلم كل العلم أن خطاب النبى هنا عام، أى لجميع الناس، وليس خاصًا بالمسلمين، وإلا قال النبى «أيها المؤمنون أو المسلمون»، كما نادى فى مواضع أخرى كثيرة بهذا النداء، مثل «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فهنا كان الخطاب خاصًا بطائفة المسلمين.
وقرن النبى حرمة الدماء بحرمة الأعراض، وكأنهما شيء واحد، فالخوض فى شرف الناس، ولو بكلمة قذف واحدة، قد تكون أشد من قطع رقبة إنسان، فالدم يُنسى بالوقت أو يزول بالصلح، لكن الشرف، يبقى عارًا ما بقيت السماوات والأرض، وفى هذا أيضًا يؤكد النبى الأمر القرآني: «لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا، وقالوا هذا إفك مبين»، فهذه الآيات نزلت فى براءة السيدة عائشة، رضى الله عنها، لتبرئتها من حديث الإفك الذى اتهمها فيه المبطلون بالفاحشة، بدون سند إلى دليل يقينى أو شهود عيان، لينصفها القرآن الكريم من فوق سبع سماوات، بعد أن اعتزلها النبى لمدة أكثر من أسبوعين.
وتطرق النبى فى حديثه إلى التوثيق على وجوب أداء الأمانات لأصحابها، فلم ينس توضيح حرمة أكل أموال الناس فقال: «فمن كانت عنده أمانة فليؤديها إلى من ائتمنه عليها»، وفى هذا المنحنى يطابق خط الوحي: «إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».
ثم أشار النبى إلى حرمة الربا، وأنه لا يجوز لمجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يكون التعامل بين أبنائه قائمًا على استغلال حاجات الفقراء، فلقد حذر النبى من خطورة التعامل بالربا بقوله: «وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمى العباس بن عبدالمطلب»، وهنا سمى الرسول الربا بأنه من تعاليم الجاهلية، ولا يعرف الإسلام طريقًا له من بعيد أو قريب، وأن حق الإنسان هو رأسماله فقط، بدون زيادة أو نقصان، ولكى يؤكد النبى على شدة التحريم وعظم ذنبه، بدأ بإسقاط الزيادة عن رأسمال عمه العباس بن عبدالمطلب، ليكون دليل عيان للناس، أنه لا يمكن للمسلمين أن يسود التعامل بينهم على أساس الربا الذى يقضى على كل معنى للرحمة والتعاون والحياة المشتركة بين جميع الناس، وينسف أى معنى للإنسانية، ومساعدة المحتاجين.
وعاد النبى للتذكير على حرمة الدماء، ووصف الثأر بأنه من توابع الجاهلية، وهو باطل ولا يعرفه الإسلام وإنسانيته من شرعة ولا منهاج بقوله: «وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية - ألا هل بلغت اللهم فاشهد».
ولمن لا يعرف السدنة: فإن المقصود بها، أشراف قريش وهم القائمون على خدمة بيت الله، فقد كانوا يرون لأنفسهم حق الحرمة والاختيار على العرب، بسبب اختصاصهم بكرامة جوار البيت الحرام، ويعتبرون أنفسهم أهله وأولياءه، كما كانوا يدركون مركز بلدهم، وما أنعم الله عليهم من كرامته وقدسيته، ولذا تضامنوا فى القيام بواجبهم نحو وفود الحجاج من ترحيب وإكرام، باعتبارهم ضيوف بيت الله الذى فى بلدهم، والذين هم سدنته.
وكانت المناصب فى قبيلة قريش خمسة عشر منصبًا، قسمتها قريش بين بطونها المختلفة لتحفظ التوازن بينها، وتمنع تنافرها أو تنازعها، ولتحفظ لقريش وحدتها وتماسكها، ولتوفر لمكة الهدوء والسلام اللازمين، لتشجيع الحجاج والتجار على الرحيل فى كل عام إلى مكة، وكانت أشرف هذه المناصب السدانة والسقاية والرفادة.
أما السدانة، أو الحجابة فصاحبها يحجب الكعبة، وبيده مفتاحها، يفتح بابها للناس ويغلقه، ومنصب السدانة أبرز المناصب على الإطلاق، والمنصب الثانى هو الساقية، ويتولى مناصبها توفير المياه للحجاج، ولم تكن هذه المهمة يسيرة لقلة المياه فى مكة، فكان من يتولى المنصب ينشئ حياضًا من الجلد يضعها فى فناء الكعبة، وينقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل فى المزاود والقرب، وكانت السقاية فى بنى هاشم بن عبدمناف، أما المنصب الثالث فهو الرفادة فكانت قريش تجمع من وجوهها بعض الأموال فى موسم الحج، ليقوم صاحب المنصب بإعداد الطعام لفقراء الحجاج باعتبارهم ضيوف الكعبة، وكان أول من قام بالرفادة قصى بن كلاب، وأصبحت فى بنى نوفل، ثم فى بنى هاشم، ومن المناصب الكبرى التى تتعلق بالكعبة والحج منصب «العمارة» ويراد بها ألا يتكلم أحد فى المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.
ولم ينس النبى توثيق حقوق المرأة، فأعلنها علانية: «أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقًا ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيرًا - ألا هل بلغت، اللهم فاشهد».
والناظر لوصية النبى بالتوصية على حسن معاملة النساء، يجدها تضمنت العديد من الحقوق، أهمها نفقة المسكن والمطعم والكسوة، الواجبة لهن على أزواجهن، وجعل معاملة النساء مساوية لتقوى الله أو درجة من درجاتها، فمن أحسن معاملتهن فقد اكتملت عنده التقوى، ووصل لأعلى درجاتها.
ووصية النبى هذه تعد موضحة لما سبقها فى القرآن الكريم من قول الله: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ، وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى».
وذّكر الرسول المسلمين بألا يتبعوا طريق الشيطان ولا أساليبه الملتوية: «أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد فى أرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا فى كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت اللهم فاشهد».
وختم النبى كلامه، بأجمل عبارات الإنسانية، بأن ربهم واحد، وأبوهم واحد وهو آدم عليه السلام، وأمهم واحدة وهى حواء، وأنهم جميعًا من نفس واحدة، ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالعمل والإيمان، وأن الناس كلهم مخلوقون من تراب، حتى لا يشعر إنسان بالكبر أو البطر، مستكبرًا على الانصياع لأوامر الله، واحترام إخوته: «أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، قالوا نعم، قال فليبلغ الشاهد الغائب».
«أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية فى أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم».
ولما فرغ من خطبته نزل عليه قوله تعالى: «اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نعمتى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».
ويروى البخارى فى مسنده، أن عمر رضى الله عنه عندما سمعها بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.