من رحيق اللغة - مع حافظ إبراهيم والعمرية (1-4).
السبت، 20 أغسطس 2016 04:31 م
عاد إلينا بعد توقف طويل نسبيا، صديقنا المنوفى الخبير اللغوى الأستاذ الأحمدى الشلبى، عاد بمقال جميل عن شاعر النيل أو شاعر الشعب الجميل حافظ ابراهيم وقصيدته العمرية. وهذه المقالات مما يريح النفس ويزيد العلم بالتاريخ العظيم، والأدب الراقى فى زمن نشكو جميعا من التعليم وتخلفه عن ركب الحضارة. يقول الرجل :
"انبرى ثلاثةُ من شعراء عصر النهضة فى مطلع القرن العشرين؛ يصدون تلك الهجمة الشرسة؛التى راحت تلصق بالإسلام سمات التخلف والإرهاب؛ وعدم الأخذ بمبدأ الشورى، والتخلف عن ركب التحضر؛ وعدم الاعتداد بالمدنية الحديثة، كأساس للحكم الرشيد، فماأشبه الليلة بالبارحة!.
ورغم اختلاف الأسباب والدوافع والأساليب والمنهج والعصر؛ أُجزم بأن العامل المساعد الأبرز بيدنا لا بيد عمرو؛ من خلال شرذمة ضل سعيها؛ اتخذت الدين وسيلة لتحقيق مكاسب دنيوية دنيئة؛ وجلبت لنا العار والشنار؛ والدمار فى سادية غريبة؛ سيقينا المولى– عز وجل – ويلاتها عاجلا- بإذن الله تعالى-؛ لأن هؤلاء سيسوا الإسلام؛ ولم يُؤسلموا السيلسة.
هؤلاء الشعراء هم؛ الشاعرعبد الحليم المصرى الذى نظم البكرية؛ فى مآثرالخليفة أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- والشاعر حافظ إبراهيم الذى نظم العمرية؛ فى مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه-؛ والشاعر البدوى محمد عبد المطلب؛ والذى نظم العلوية فى مكارم الإمام على بن أبى طالب- كرم الله وجهه.
ولعلكم تتفقون معى أن عمرية حافظ؛ حـازت قصب السبق؛ وصارت حلية المجالس الأدبية والفكرية؛ تغنى بها أهل الشعروالأدب والمثقفون؛ حتى سارت بذكرها الركبان؛ وطبقت شهرتها الآفاق؛ حتى جاورت؛ بل جاوزت العنان؛ كأنشودة لتجسيد معانى العدل المنشود؛ وسمو الروح الإنسانية التى غرسها الإسلام الحنيف؛ وتعهدها بالرعاية والعناية إلى أن بلغت ذروة العدل فى عهد الفاروق عمر- رضى الله عنه- متأسيا بالمصطفى- صلى الله عليه وسلم والصديق- رضى الله عنه.
والعمرية لها رونق خاص؛ وتوهج فكرى وشعورى أخاذ؛ تهتزلها القلوب؛ وتأنس لها الآذان؛ولاتملك إلا أن تتمايل معها طربا؛ مع وزنها المثير للشجن والانبهار برناته الرشيقة؛ ولغتها الرصينة الجزلة؛ وموسيقاها عذبة الإيقاع فى أوج رقيها وسموها؛ مع القدرة المتمكنة على التوليد اللفظى.
ومنذ سنوات سألت صديقى المحامى المثقف؛ مصطفى حجازى؛ عن سر تلك الحالة من الارتياح والبهجة؛ التى تنتاب قارئ ومستمع العمرية الرائعة؛ فقال:لافتقار العالم لمعانى العدل المجسد فى هذا النموذج المبهر.
وُلد شاعرُنا الفذ؛ حافظ إبراهيم؛ فى 24 فبراير1872م؛ بمدينة ديروط؛ فى سفينة راسية فى النهر المقدس بمحافظة أسيوط؛لأب مصرى؛ كان يعمل مهندسا للرى؛ وأم تركية؛ وما لبث أن توفى والداه؛ فتعهده خاله بالرعاية؛ والذى كان يعمل مهندسا للرى أيضا بمدينة طنطا؛ وكأنما قُـدر له أن يرتبط بالنيل العظيم؛ يرتوى منه وجدا وعاطفة ووطنية؛ حتى لُقب بشاعر النيل؛ وبشاعر الشعب أيضا ؛ وأحسب أن شاعر الشعب ؛هو اللقب الأقرب لحافظ؛ حيث يعتبر شعره سجلا للأحداث الجسام؛ فى عصره؛ وكأنما كان يستعمل دماء قلبه مدادا حارا؛ ليصوغ شعرا صادقا؛ يأخذ بالعقول والألباب؛ ومحفزا للهمم؛ يدفعها للنهوض دفعا وطنيا مُخلصا فياضا دفاقا.
وكان شاعُرنا حافظ إلراهيم ذا روح فكهة شفافة؛ يملأُ المجالس بهجة وسرورا ؛ مع سرعة بديهة؛ وأحاديث شائقة تأسرُ القلوب والألياب؛ خفيف الظل، حلو المعشر؛ لاذع النكتة؛ حتى عُـد من ظرفاء مصر؛ وتلك الأبيات التى نظمها فى صباه؛ حينما تذمر خالُه من نفقته؛ وكان رجلا رقيق الحال؛ فترك منزله غاضبا، وترك ورقة فيها أبيات يقول فيها:
ثقلت عليك مؤونتى .............. إنى أراها واهية
فافرح فإنى ذاهب ............... متوجه فى داهية
بتلك الروح العذبة الرقراقة؛ وخفة ظله التى لازمته؛ مع ألمعية لا تجد عناء فى اكتشافها؛ وعاطفة دينية جياشة. وروح مصرية وطنية وثابة؛ وتسرى فيها البهجة.
نظم حافظ إبراهيم رائعته العمرية الخالدة؛ واختار لها بحر البسيط؛ وألقاها فى مدرج وزارة المعارف العمومية؛ بدرب الجماميز بالقاهرة؛ فى الخامس من فبراير؛سنة 1918م؛ وقد لاقت استحسانا وشيوعا واسعين؛ وقد بدأها شاعرنا بطلب العون والمدد من الله تعالى، أن يمده بشريف المعانى التى تلائم شرف المقام؛ الذى ينظم فيه فبدأها بقوله:
حسبُ القوافى وحسبى حين ألقيها........ أنى إلى سـاحة الفـاروق أهديها
لاهُـم (اللهم) ؛هـب لى بيانا أستعين به........... عـلى قضاء حقوف نـام راعيها
قـد نـازعتنى نفسى أن أوفيها.......... وليس فى طـوق مثلى أن يوفيها
فمر سـرى المعانى أن يواتينى.......... فيها؛فإنى ضعيفُ الحـال واهيها
ثم بدأ أحداث العمرية من نهايتها؛ حيث مقتل واستشهاد عمر؛ على يد أبى لؤلؤة المجوسى؛ فعشنا معه المأساة منذ أبياتها الأولى؛ واكتوينا بنار الفاجعة؛ وكأن دماء عمر - رضى الله عنه- لم تجف بعد.
يقول الشاعر العظيم فى استشهاد عمر رضى الله عنه وأرضاه:
مولى المغيرة لا جادتك غادية........... من رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت منه أديما حشوُه همم............... في ذمة الله عاليها و ماضـيها
طعنت خاصرة الفاروق منتقما............. مـن الحنيفة في أعلى مجاليها
فأصبحت دولةُ الإسلام حائرة ............... تشكو الوجيعة لما مات آسيها
مضى و خلـّفها كالطود راسخة ........... و زان بالعدل و التقوى مغانيها
تنبو المعاولُ عنها و هي قائمة .............. و الهادمون كثير في نواحيها
حتى إذا ما تولاها مهدمُها .................. صاح الزوالُ بها فاندك عاليها
واها على دولة بالأمس قد ملأت ......... جوانب الشرق رغدا في أياديها
كم ظللتها و حاطتها بأجنحة ............. عن أعين الدهر قد كانت تواريها
من العناية قد ريشت قوادمها .......... ومن صميم التقى ريشت خوافيها
و الله ما غالها قدما و كاد لها................ و اجتـث دوحتها إلا مواليـها
لو أنها في صميم العرب ما بقيت ............ لما نعاها على الأيام ناعيها
ياليتهم سمعوا ما قاله عمـر ............... و الروحُ قد بلغت منه تراقيـها
لا تُكثروا من مواليكم فإن لهم ............ مطامعا بَسَمَاتُ الضعف تُخفيها
ثم تناول قصة إسلامه-رضى الله عنه قائلا:
رأيت في الدين آراء موفقـة ................. فــأنـزل الـلهُ قـــرآنـا يزكيـها
و كنت أول من قرت بصحبته ............ عينُ الحنيفة و اجتازت أمانيها
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها......... بنعمة الـله حصنا من أعاديها
خرجت تبغي أذاها في محمدها............. و للحــنيـفة جـــبـار يــواليـها
فلم تكد تسمع الايات بالغة .............. حتى انكفأت تناوي من يناويـها
سمعت سورة طه من مرتلها ............ فــزُلـزلــت نية قد كـنت تنويـها
و قلت فيها مقالا لا يُطاوله ............. قولُ المحب الذي قد بات يُطريها
و يوم أسلمت عز الحق و ارتفعت.......عـن كاهــل الدين أثقــالا يعانيها
و صاح فيها بلال صيحة خشعت........ لهــا القـــلوبُ ولبت أمـر باريها
فأنت في زمن المختار منجدُها.......... و أنت في زمن الصديق مُنجيها
كم استراك رسـولُ الله مُغتبطا ............. بحكمـة لـك عند الرأي يُلفيـها
لقد كان إسلام عمر- رضى الله عنه – نقطة تحول وانطلاق للدعوة المحمدية؛ فقد استجاب المنعم- سبحانه وتعالى- لدعوة صفيه وحبيبه – صلى الله عليه وسلم- بأن يعز الإسلام بأحد العمرين؛ فبعد أن كان أشد وألد أعداء الإسلام؛ صار بنعمة الله حصنا من أعاديه؛ وجهر بالدعوة فى تحد سافر لصناديد الكفر؛ وطواغيت الشرك؛ فحاز لقب الفاروق؛لأنه فرق بين الحق والباطل.
النّحتُ، وهو نوعٌ من أنواع الاشتقاق اللغوى؛ لأنّه يُمكّنُ من صياغةِ لفظٍ جديدٍ من أصلِ ألفاظٍ أُخرى، لِما للعربيّةِ من حاجةٍ إلى نَحْتِ ألفاظٍ جديدَةٍ للدّلالة على مَعانٍ مركّبةٍ لأن اللغة كائن حى كما قال ابن جنى؛ والاشتقاقُ اللغوى البارع؛ عند حافظ يتسم بالتمكن لامتلاكه ناصية اللغة؛ بوعى وإدراك ؛كما فى كلمة لاهُم؛اختصارا لكلمة اللهم فى البيت الثانى؛وكلمة استراك فى البيت الأخيرأى أخذ رأيك.
دعونا نردد مع شاعرنا حافظ إبراهيم قوله:
فقل للفاخرين: أما لهذا الفخر من سبب؟
أرُوني بينكم رجلا ركينا واضح الحسب
أروني نصف مخترع أروني ربع محتسب
أروني ناديا حفلا بأهل الفضل والأدب؟
وماذا في مدارسكم من التعليم والكتب؟
وماذا في مساجدكم من التبيان والخطب؟
وماذا في صحائفكم سوى التمويه والكذب؟
حصائدُ ألسن جرّت إلى الويلات والحرب
فهُبوا من مراقدكم فإن الوقت من ذهب.
وإلى لقاء إن شاء اللهُ تعالى. وللحديث صلة وبالله التوفيق.