خطاب أخير للرئيس
الأحد، 14 أغسطس 2016 03:25 م
أخشى أن الرئيس السيسى يظلم نفسه ، ويظلمنا معه ، وتدفع حكومته البلد إلى أزمة خطيرة ، وإلى انفجار اجتماعى يعلم الله وحده مداه المدمر .
وليست هذه هى المرة الأولى التى نحذر فيها ، فقد فعلنا قبل الأوان بزمان ، لكن أحدا لا يسمع ، ولا يريد أن يتوقف ويتبين ، ولاأن يتجنب مزالق الخطى المتعثرة ، بل عدنا من جديد إلى "الفولكلور" البائس ، والمتوارث من نظام إلى نظام ، ومن حكم إلى حكم ، والذى يحدثك عن تفضيل النقد البناء على النقد الهدام ، ثم لا يعتبر "النقد البناء" سوى أن تطبل وتزمر وتقبل يد الحكام ، مع أن النقد هو النقد ، والمعارضة هى المعارضة ، وليس من النقد ولا المعارضة ، إطلاق سهام طائشة ، ولا الكلام "المكايد" بغير علم ، ولا الاستناد لغير الحقائق الصلبة ، فهذا كله "كلام مصاطب" أو "كلام فيس بوك" ، أو "فش غل" قد لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يندرج فى معنى النقد الذى يظل ساطعا ، ويمتاز بكونه "هداما" لأبنية الزيف والركاكة السارية ، وبناء من طرف آخر ، يبنى وعيا مستقلا عن زمرة الطبالين وزمرة الملتاثين ، وفى مصر الآن ألف سبب وسبب جاهز للنقد والغضب ، ودون احتياج لإضافة رتوش ولا افتعال لمساحيق ، ولا تصور أنه يمكن المصادرة على النقد والرأى الآخر ، وربما حتى على الانتقال من معنى "النقد" إلى معنى "النقض" ، مهما أراد المصادرون للصحف والمقالات ومداخلات التليفزيون ، ومهما زادت سبل الحجب والمنع ، فقد فات الزمن الذى كانت تؤثر فيه المصادرات ، وصارت الوسائل العقيمة من قوانين "أهل الكهف" المنقطعة عن جريان الزمن ، وحطمت الثورة الهائلة فى وسائط الاتصال كل قيد يمكن أن يفرض ، وصار الرأى العام وحده هو الحكم ، وهو الذى يميز الطيب عن الخبيث ، ويفرق بوضوح رائق ، بين النقد حتى لو وصل إلى مقام "النقض" ، وبين "التشكيك" الذى تخوف منه الرئيس ، ونعى عليه فى خطابه الأخير ، وإلى حد بدا معه أن الرئيس يخلط معنى النقد بمعنى التشكيك ، ويضيق صدره حرجا بكل نقد يثار ، حتى لو كان مستندا على حقائق مرئية لكل الناس ، ولا سبيل للتشكيك فيها ، إلا لو كان يريد ضرب الحقائق بالحقائق ، خذ عندك ـ مثلا ـ كلام الرئيس عن الطاقة الكهربائية ، فقد نوه الرئيس بالنجاح فى توفير إمدادات الطاقة ، وهذا كلام صحيح وفى محله ، لكنه اعتبر كلام الناس عن غلاء فواتير الكهرباء تشكيكا ، برغم أنها حقيقة ساخنة ، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، بل زادت الفواتير غلاء على غلاء بقرارات صدرت عقب خطاب الرئيس نفسه ، وبقرارات مضافة يخططون لصدورها كل عام مقبل حتى نهاية العقد الجارى ، ولم ينكر الرئيس نفسه هذه الحقيقة ، والتى اعتبرها ـ للمفارقة ـ تشكيكا ، وهذا تناقض مثير للأسى ، وكأن الرئيس يريد للناس أن يذكروا فقط نصف الحقيقة ، وأن يقولوا ـ فقط ـ أن الكهرباء توافرت ، ثم أن يغلقوا أفواههم بعدها ، ويضعون النقطة فى وسط السطر ، ويحمدون الله على إنجاز الرئيس ، ولا يكملون السطر عن أثر الإنجاز على حياتهم اليومية ، ولا يضيفون كلمة عن الفواتير التى صارت "نارا" بتعبير الرئيس نفسه ، وكأن أحدا غير الرئيس هو الذى أشعل بقراراته حرائق الغلاء ، بينما يعرف أبسط الناس أن الرئيس هو المسئول فى البدء والمنتهى ، وأن الحكومة تعمل ـ كما تقول ـ بتوجيهات السيد الرئيس (!) .
ليس فى القصة ـ إذن ـ تشكيك ولا يحزنون ، فالحقيقة هى الحقيقة ، وذكر نصف الحقيقة دون نصفها الآخر ظلم وتعتيم والتواء ، فليس من شك فى أن الرئيس له إنجازات لا تنكر ، لكن سياسة الرئيس نفسه تنطوى على إخفاقات مرعبة ، وكأن سياسة الرئيس تعمل للأسف ضد إنجازاته ، فى الأمن والسياسة ، وفى الاقتصاد بالذات ، حيث تظهر الإخفاقات ، وتكاد الإنجازات تتوارى ، فحياة الناس تلتهب ، وجيوبهم تفرغ مع موجات الغلاء الكافر المتلاحقة ، وبطولة البقاء على قيد الحياة ، تكاد تتحول إلى عمل مستحيل عند غالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى ، فلا يكادون يفيقون من ضربة على الرأس ، حتى تلاحقهم الأخرى ، ففواتير المياه والكهرباء تتزايد أرقامها بانتظام وتصاعد مخيف ، وكلما تكيفوا مع زيادة لحقتهم أختها ، وقد تحملوا عبء خفض شريحة من دعم المواد البترولية أول أيام السيسى فى الحكم ، لكن المزيد من "القرارات الصعبة" تنتظرهم على يد الرئيس نفسه ، وفى صورة صدمات متوالية ، ترفع أسعار تذاكر المترو والقطارات ووسائل النقل العامة ، إضافة لموجات الغلاء المتلاحقة بجنون الدولار وضرائب القيمة المضافة ، وقد يعاجلهم الرئيس بما تلكأ فيه ، وتخوف منه على مدى سنتين ، وهو الشروع فى تنفيذ برنامج إلغاء دعم المواد البترولية بالكامل ، وسكب نار البنزين على حياتهم التى صارت جحيما ، والتعجيل بلحظة انفجار اجتماعى لا يبقى ولا يذر ، وهى تحذيرات لا يلتفت إليها الرئيس فى العادة ، فقد أقنع نفسه ، أو أقنعه مستشاروه ، بخرافة مشهورة ، هى أن شعبية الرئيس تكفى لتحمل الصدمات ، وأنها بوليصة تأمين سياسى ، وأنه وحده القادر على إشعال حرائق الغلاء ، ثم ضمان أنه لن يتحرك أحد ، ولن يتحول غضب الناس المكتوم إلى غضب ناطق ، وهذه أخطاء فادحة فى الحساب السياسى ، ربما لأن منطق السياسة مستبعد أصلا عند صناع القرار ، فليس صحيحا بالمرة ، أن شعبية الرئيس صامدة فى نفوس الناس ، وقد كانت للسيسى شعبية هائلة ، أتيحت له فى ظروف محددة ، لكنها ـ أى الشعبية ـ تآكلت بشدة ، وتحول المصريون العاديون إلى عادة "اللعان"من جديد ، وتحميل السيسى وزر كل المصائب التى تلحق بهم ، فهم لا يرون إنجازات الرئيس البعيدة ـ بطبعها ـ عن العين والقلب ، والتى ينتمى أغلبها إلى معنى إضافة أصول أو بنى أساسية ، ليس متوقعا أن تؤتى ثمارا قريبة ، برغم الإنفاق الهائل عليها ، والذى قد يكون وصل إلى تريليون ونصف التريليون جنيه بحسب تقديرات الرئيس نفسه ، أى ما يقارب موازنة الحكومة كلها فى عامين ، وقد جرى تدبير غالبها من خارج الموازنة الحكومية المنهكة ، وإن كانت ـ بالطبع ـ من أموال المصريين ، أو من القروض التى يتحمل المصريون وحدهم سداد ديونها ، وربما إلى أمد بعيد ، يتخطى بالطبع زمن رئاسة السيسى وحكوماته ، وقد يكون بعض الانفاق الهائل فى محله تماما ، وكما جرى ويجرى فى تعظيم قوة الجيش ومشاريع تنمية قناة السويس وتوفير إمدادات الطاقة وغيرها ، وإن كان الخلاف على أولوية مشروعات أخرى من لزوم ما يلزم ، فقد كان يمكن توفير نصف الإنفاق الهائل ، أى ما يزيد على 700 مليار جنيه ، كان يمكن إنفاقها فى سبيل آخر ، يقفز مباشرة إلى خلق اقتصاد إنتاجى باستثمارات عامة ، وانقاذ قلاع الصناعة الكبرى التى جرى تخريبها بالكامل ، لكن الرئيس لم يفعل ، وظل فى انتظار استثمارات أجنبية ، لا تأتى كما تصور ، ولأسباب تتعلق بالركود التجارى والاقتصادى العالمى ، وظل يواصل إنفاق مئات المليارات فى بنى أساسية بعيدة عن هموم الناس المباشرة ، ثم يزيد الناس هما على هم ، ويواصل الانحياز بسياسته لمليارديرات النهب ، وحمايتهم من أعباء ضريبة تصاعدية سارية فى الدنيا كلها ، ووضع همه كله فى قرارات التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى ، وهم أغلبية المصريين بنسبة تصل إلى التسعين بالمئة ، يحملهم وحدهم ـ دون الأغنياء ـ عبء ومضاعفات العجز فى الموازنة الحكومية المعلنة ، وإشعال أسعار السلع والخدمات ، وبصورة جنونية تتجاوز طاقة الناس على الاحتمال ، وبدعوى بيع الخدمات العامة بسعر التكلفة ، وبيع المياه والكهرباء والنقل والبنزين وغيره بالسعر العالمى ، متصورا أن تلك هى العدالة وأصولها ، ناسيا ومتجاهلا لحقيقة كبرى ، هى أنه حتى الفرقة الناجية من المصريين ، التى تحصل على فرص عمل وتتلقى أجورا ، يصل دخلها بالكاد إلى عشر متوسط الأجر العالمى ، أى أن الإنسان المصرى العامل يبيع جهده بعشر التكلفة العالمية ، بينما يريد له الرئيس أن يتحمل تكلفة الأسعار كاملة ، وبالمعدل العالمى ، أى يريد له مصير السحق تحت عجلات الأسعار العالمية ، وهو تناقض فادح فاقع ، لا يلتفت له السيسى أبدا ، أو يعتبر ذكره نوعا من التشكيك فى إنجازات سيادته .