23 يوليو ثورة خالدة في التاريخ الثقافي العربي وانجازات ثقافية عملاقة

الأحد، 24 يوليو 2016 07:38 ص
23 يوليو ثورة خالدة في التاريخ الثقافي العربي وانجازات ثقافية عملاقة

في الذكرى الرابعة والستين لثورة 23 يوليو تؤكد هذه الثورة المصرية الخالدة على مكانتها العالية في التاريخ الثقافي العربي وأصالة مواريثها الثقافية سواء على مستوى القضايا الفكرية التي مازالت تلهم كبار المثقفين العرب وتحفزهم على مزيد من البحث والإبداع أو على مستوى الإنجازات الثقافية العملاقة على الأرض والتي نهض بأغلبها الدكتور ثروت عكاشة "الوجه الثقافي المضيء لثورة يوليو".


ولئن كانت ثورة 23 يوليو قد شكلت ثقافة وطنية ضد الهيمنة الأجنبية مرتكزة على حضارة شعب راسخ في أرضه عبر آلاف الأعوام فإنها امتلكت الإرادة لصنع تاريخ جديد حافل بصفحات مضيئة وأفكار بناءة ومشاريع تترجم على الأرض هذه الأفكار بقدر ما تمنحها مصداقية لدى الجماهير.


وثمة حاجة لدراسات متعمقة في التاريخ الثقافي حول "النموذج الثقافي لثورة 23 يوليو" بعيدا عن الغلو في التمجيد أو التسفيه والتجريح وبروح من الموضوعية ومراعاة السياقات التاريخية ومعطيات زمنها وعصرها الذي يختلف عن الواقع الراهن بتحدياته الجديدة.


ولعل الإلهامات الفكرية لثورة 23 يوليو و"الناصرية" تتجلى في كتاب "الفكر العربي وصراع الأضداد" للمفكر العربي البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري وهو عمل ثقافي رفيع المستوى بقدر ما أثار جدلا بين مثقفين كبار على مستوى العالم العربي.


ويرى الدكتور محمد جابر الأنصاري ان "الناصرية جاءت استجابة توفيقية بين الخيار الليبرالي والخيار الماركسي" معتبرا أن الفكر الليبرالي قد تراجع منذ عشية ثورة 23 يوليو فيما شمل النكوص والارتداد بعض رموز هذا التيار مثل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل.


فبعد التفاؤل الكبير الذي أبداه الدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1939 جاء كتابه "المعذبون في الأرض" مرثية تاريخية "للفكرة-الحلم" أي "مصر الليبرالية المتوسطية" وسرعان ما انضم إلى ركب أعداء التوجه الليبرالي لويس عوض وسيد قطب على ما بينهما من خلافات واختلافات جذرية بينما حاول توفيق الحكيم الخلاص من المعاناة والاختلال بالاحتماء "بفلسفته التعددية" المبنية على فكرة "ألا تسود قوة وحيدة أو تطغى في أي مجال من الحياة والكون".


وهذه "الفلسفة التعادلية" لتوفيق الحكيم يصفها الدكتور محمد جابر الأنصاري بأنها تعبر عن "النزعة التوفيقية المتأصلة في الفكر العربي" وان عبرت عن نفسها بلغة العصر حينئذ "بمصطلح التعادلية" فيما دخلت تلك "التعادلية" في جوهر وطبيعة الدور التاريخي للثورة المصرية التي افرزتها اربع معضلات مترابطة هي :توتر العلاقة بين الإسلاميين والحضارة الغربية الحديثة وتأخير الاستقلال الكامل وتفاقم المشكلة الاجتماعية والأزمة الروحية-النفسية التي أعقبت سلسلة إخفاقات بلغت ذروتها في النكبة الفلسطينية عام 1948 ودفعت إلى تلمس سبل الخلاص.

غير أن ثورة 23 يوليو لم تكن في نظر هذا المفكر البحريني الكبير "بالشمول المطلوب وانحصرت في كونها صياغة جديدة متطورة ومرنة للنظرية التوفيقية ومركباتها التصالحية المتفرعة عنها في السياسة والاجتماع" فهذه الثورة على حد تعبيره "ثورة في التوفيقية لا ثورة عليها" وهذا ما لاحظه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر عندما زار مصر في شهر مارس عام 1967 ليقول :"نادرا ما رأيت مثل هذا الحذر ومثل هذا الاهتمام بالتوفيق بين مصالح تتعارض في كثير من الأحيان".

ومع أن هناك من كبار المثقفين العرب من يعود "بالنزعة التوفيقية" إلى "الفكر الوسطي العربي وطبيعتنا الثابتة في شخصيتنا الجماعية وحتى موقع الوطن العربي الكبير الذي يتوسط العالم" فإن الدكتور محمد جابر الأنصاري يذهب إلى أن "النزعة التوفيقية" في الفكر العربي بمثابة "اختيار فلسفي مريح ويسهل الدفاع عنه" معتبرا أنها "فلسفة ازدواجية ذات منهجين في البحث ومنشطرة بلا حسم بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادية".

ولا يعني كل ذلك رفض محمد جابر الأنصاري "للتوفيقية" أو تأييده لضرورة الخلاص من تلك النزعة الفكرية وإنما يرى ضرورة إقامتها على "أسس أرسخ والتوفيق بين جوهر النظامين المطلوب التوفيق بينهما لا المظاهر حتى لا تكون مجرد مركب تلفيقي لا قيمة له".

كما لا يجوز تناسي أو إغفال أن هذا الموقف الفكري للدكتور محمد جابر الأنصاري يعكس شعورا لدى الكثير من المثقفين العرب "بالحيرة حيال إخفاق الأمة في حسم خيارها الحضاري على مدى زمني طويل بالفعل فيما توالت وتتوالى الأحداث الجسام التي يثير بعضها حيرة وذهول رجل الشارع العربي والمثقفين العرب معا تبرهن على الفجوة العربية الواسعة ما بين النظرية والتطبيق والقول والفعل.

ولم تكن "النزعة التوفيقية" في بعض الأحداث الجسام بقادرة على الاستجابة المثلى لتحديات عديدة "جوهرها حضاري مثل قضية التحديث" ورد العدوان على الأمة العربية كما ان الحيرة تتصاعد لأنه ليس من المقبول ولا من المعقول "ان ينبطح الفكر العربي تماما ويستقيل أمام الفكر الوافد من الغرب".

وهكذا فان الدكتور محمد جابر الأنصاري يطالب بأن يقرر الفكر التوفيقي اي تيار من تيارات الحضارة الحديثة هو الأقرب الى روحه وان يصل التوفيق الى مستوى المندمج العضوي" رافضا ما يسميه "باللاحسم" فيما يرى البعض ان للمشكلة مظاهرها المتعددة وتمزقاتها الظاهرة حتى على مستوى الكثير من المثقفين "الذين يقولون ولايفعلون او يفعلون مالا يقولون وان بعضهم لا يجرؤ على أن يقول لشعبه ما يفكر فيه بالضبط" !.

والظاهرة كما يرصدها الأنصاري تمتد أيضا لتشمل فصيلا قوميا آخر هو حزب البعث كما أسسه المفكر السوري ميشيل عفلق وها هو يتحدث عن "توفيقية البعث حيث تعايش عنصران متميزان: عنصر إيماني روحي مثالي وعنصر عقلاني مادي واقعي" على حد قوله.

وللحق فإن ما يقوله الدكتور محمد جابر الأنصاري مفيد في الإجابة على أسئلة عصيبة وتساؤلات مؤرقة مثل :"لماذا أخفقت المشاريع النهضوية العربية مقارنة بالمشاريع الأسيوية التي نجحت في استيعاب ضغوط التغريب ومشاكل التحديث" .

وفي المقابل من الحق أيضا التساؤل عن صحة الحماس الظاهر للأنصاري "للفلسفة المادية الجدلية" وهي وإن كانت إضافة غير منكورة للفكر الإنساني إلا أن تجارب الواقع برهنت على إخفاق نماذجها السياسية كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق كما ان اسس ومعطيات هذه الفلسفة باتت موضع شك عميق في ضوء البحوث الفيزيائية الجديدة حول طبيعة المادة وماهيتها.

وفي هذا الكتاب ينقب الدكتور محمد جابر الأنصاري في الثقافة التي شكلت وعي جمال عبد الناصر مشيرا لتأثره بقصة "الزهرة القرمزية" للكاتبة الانجليزية بارونس اوركزي والتي تدخل في أدب المقاومة والثورة الفرنسية وكتاب "ألأبطال" لتوماس كارليل ورواية تشارلز ديكنز "قصة مدينتين" وعبقريات عباس محمود العقاد ناهيك عن أعمال توفيق الحكيم وخاصة رواية "عودة الروح".

والكثير من المثقفين يتفقون على أن العصر الذهبي لوزارة الثقافة المصرية وأروع إنجازاتها كان في ستينيات القرن العشرين وبقيادة أحد ثوار يوليو وهو الدكتور ثروت عكاشة فيما بلغت القوة الناعمة المصرية حينئذ ذروة عالية وازدهرت المجلات الثقافية و فنون السينما والمسرح.

ولئن كانت الذكرى ال64 لثورة 23 يوليو مناسبة لاستدعاء ذكرى "الضمير الثقافي لهذه الثورة كما تجسد في الراحل العظيم الدكتور ثروت عكاشة بإنجازاته الثقافية الخالدة كأبرز وزير ثقافة في الحقبة الناصرية " فان من دواعي الإنصاف وطبائع الأمور ان هذا الوزير المفكر لم يكن لينجز كل ما أنجزه لولا دعم ومساندة جمال عبد الناصر قائد الثورة ورئيس الدولة.

وهكذا وفي ظل هذا الدعم والمؤازرة تسنى لثروت عكاشة "فارس السيف والقلم والوجه الثقافي المضيء لثورة 23 يوليو" أن ينقذ آثار النوبة ومعابد أبو سمبل وفيلة من الغرق أثناء تنفيذ مشروع السد العالي وأن يقيم صرحا عملاقا مثل أكاديمية الفنون بمعاهد الباليه والكونسرفتوار والسينما والفنون المسرحية وينشر قصور الثقافة لتقديم خدمة ثقافية لن ينساها التاريخ لجماهير شعبنا في كل مكان .

إنه حقا "الوجه الثقافي المضيء والنبيل لثورة 23 يوليو" الذي أقام قاعة سيد درويش للاستماع الموسيقي وإعاد تكوين اوركسترا القاهرة السيمفوني وفريق أوبرا القاهرة فضلا عن عروض الصوت والضوء بالأهرام والقلعة ومعبد الكرنك.

إنه ثروت عكاشة وزير الثقافة في العصر الناصري والعضو بالمجلس التنفيذي لليونسكو الذي أوفد معارض الآثار المصرية للخارج لأول مرة ليحقق التواصل الحضاري والثقافي بأروع معانيه وهو الذي اقام متحف مراكب الشمس ومتحف المثال محمود مختار ودار الكتب القومية ونظم احتفالية باقية في ذاكرة التاريخ الثقافي المصري والعالمي في العيد الألفي للقاهرة عام 1969.

وفي غمار كل هذا الجهد الثقافي العملاق لم يتوقف ثروت عكاشة الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون بباريس عام 1960 عن الكتابة والإبداع ليقدم للثقافة العربية والعالمية موسوعته في تاريخ الفن :"العين تسمع والأذن ترى" والتي جاءت في 20 جزءا ويحقق "كتاب العارف لابن قتيبة" ويقدم كتاب "مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء"وعشرات المؤلفات والأبحاث بالانجليزية والفرنسية.


والدكتور ثروت عكاشة الذي قضى في السابع والعشرين من فبراير عام 2012 هو أيضا صاحب المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية فيما لا غنى لأي باحث جاد في دراسة ا"لحياة الثقافية في مصر الناصرية" عن كتابه الهام "مذكراتي في السياسة والثقافة" ثم انه صاحب كتاب هام عن القائد المغولي جنكيز خان بعنوان "إعصار من الشرق" ولا يمكن أيضا تناسي طروحاته عن مبدعين في حجم ليوناردو دافنشي أو الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر وترجماته لروائع جبران خليل جبران.


والذاكرة الثقافية المصرية والعربية على وجه العموم تحتفظ بكل هذه الجهود العملاقة والإبداعات للوجه الثقافي المضيء لثورة 23 يوليو ومن بينها ترجمات هي سحر في البيان مثل رائعة "فن الهوى" ورائعته الأخرى "مسخ الكائنات" وكتاب الأيرلندي الخالد برنارد شو : "مولع بفاجنر".


ومن هنا قال عنه الناقد الراحل رجاء النقاش :"الدكتور ثروت عكاشة رجل له صوت وضوء والمؤسسات الرفيعة التي أنشأها بل أنجبها هذا الرجل سوف تبقى ما بقيت مصر" ولا ريب انه في ذلك كله يعبر عن رؤية ثقافية لقائد ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر الذي ارتبط به وجدانيا.

وبعد الرحيل الفاجع والمبكر لقائد ثورة 23 يوليو يوم الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين عام 1970 رثاه ثروت عكاشة بقوله :"ومضى القائد العظيم..مضى بعد وقفة قصيرة بيننا لكنها خلاقة أخذنا فيها من ركود ماضينا إلى وثبات مستقبلنا" فيما اختتم عكاشة طرحه بمرثية الأرض التي ألف موسيقاها النمساوي جوستاف مالر :"لن ابتعد إلى الأبد..إلى الأبد".

وإذا كان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قد وصف جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو "بعظيم المجد والأخطاء" فإن كتابات كبير الرواية العربية والنوبلي المصري نجيب محفوظ عن هذه الثورة و التجربة الناصرية تشير بصيغ مختلفة "لإنجازات عملاقة مقابل أخطاء وخطايا تتعلق بالحريات وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان" فيما لفت فريق من المثقفين غير مرة لأهمية الانتباه للسياق التاريخي لهذه التجربة وحجم التحديات التي جابهتها.

وكل ذي عينين بمقدوره أن يرى هذا الحنين المتدفق على امتداد الخارطة العربية لعصر ثورة 23 يوليو بقيمه العروبية وذلك الحضور الحافل بالشجن في الذاكرة العربية لشخص قائد هذه الثورة ومواقفه وأفكاره عبر مسيرته النضالية وسعيه المخلص لتجسيد معنى الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والانتصار للكادحين في الأرض.

و مصر التي ثارت منذ 64 عاما في يوم خالد تؤسس اليوم وبعد ثورتي الخامس والعشرين من يناير 2011 و30 يونيو 2013 للتقدم كسبيل لتجسيد معاني الاستقلال في هذا العصر بتحولاته العالمية العميقة التي تتطلب استحقاقاتها علما وخيالا وإرادة وتجددا معرفيا مستمرا تشكل كلها ما يمكن وصفه "بثقافة المستقبل".

إنه المستقبل الذي طالما عملت ثورة 23 يوليو من أجله وصولا للغد الأفضل للشعب المصري والأمة العربية..فتحية لثورة خالدة في ذكراها الرابعة والستين..وتحية لروح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي أطلق أنبل المعاني وخاض أشرف المعارك وكتب مشاهد عدل خالدة وحقق انجازات عملاقة ومحفورة في سجل المجد واروع صفحات الذاكرة الثقافية العربية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة