استدعاء عبدالناصر
السبت، 23 يوليو 2016 04:28 م
لا صوت يعلو فى الوجدان المصرى الأن على صوت جمال عبد الناصر ، وقد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة ، فقد انتقل الرجل إلى رحاب ربه قبل 46 سنة مضت ، وجرى الانقلاب بالجملة على اختيارات ثورته بعد حرب اكتوبر 1973 .
وفى احتفال الدولة الرسمى بالذكرى الثالثة للثلاثين من يونيو 2013 ، والذى أعدته وزارة الثقافة ودار الأوبرا ، لم يكن من عمل فنى واحد لا ينتمى إلى حقبة عبد الناصر ، وكان وهج الغناء على المنصات استعادة واستدعاء لزمن عبد الناصر ، وصدحت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ عبر حناجر ذهبية لشبان وشابات موهوبين وموهوبات ، ودون أن يحس أحد بفوات الزمن ، وبأن الأغانى ظهرت من خمسين سنة ، لكنها بدت ، وكأنها كتبت اليوم ، وتعبر عن أحلام مصر وأشواقها إلى المستقبل ، لا إلى ماض لم يكتمل أبدا .
أكثر من ذلك ، بدا أن جمال عبد الناصر هو البطل الرمزى للثورة المصرية المعاصرة ، من ميادين 25 يناير 2011 ، وإلى ميادين 30 يونيو 2013 ، وبفيضان شعبى هادر ، بدأ بعشرات الآلاف ظهر الثلاثاء 25 يناير ، ثم تناسلت فى عشرات الملايين مساء الأحد 30 يونيو، وبدت فيه صور جمال عبد الناصر كأنها التميمة الحارسة ، فلم تظهر صورة زعيم مصرى راحل فى الميادين سوى صورة الرجل ، وفى موجات تلقائية متلاحقة ، دفعت حتى جماعة الإخوان فى ميادين يناير إلى مجاراة التيار الجارف ، برغم ما هو معروف ومفهوم من عداوة الإخوان المزمنة لاسم وذكر جمال عبد الناصر ، وكانت منصة الإخوان فى ميدان التحرير تذيع أغانى عصر عبد الناصر ، وبالذات أغنية عبد الحليم حافظ "صورة" ، والتى تدور معانيها حول التفاف الجماهيرالفريد من حول عبد الناصر ، و"اللى حيطلع من الميدان / عمره ما حيبان فى الصورة" ، وفى كل الأحوال ، كان منسوب الوجدان يصعد إلى عنان السماء ، وسواء أذيعت أغانى عبد الناصر من منصة الإخوان ، أو من منصة احتفال السيسى الأخير بالثلاثين من يونيو ، وكان مجرد ذكر عبد الناصر فى أغنية ، أو الإشارة إليه فى سياق أغانى عصر خلع القلب ، كان ذلك كفيلا بتوليد فورة حماس ، ودفع الأيدى الباردة إلى الالتهاب بالتصفيق ، واستثارة الحنين الجارف إلى عظمة الوطن والشعب المصرى ، وربما كان ذلك ما دفع أشد خصوم عبد الناصر ، وهم جماعة الإخوان ، إلى التسليم بسطوته الوجدانية فى قلوب المصريين وذاكرتهم الجماعية ، فالرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى ، بدأ رحلته القصيرة فى الحكم بعبارة شهيرة عن "الستينيات .. وما أدراك ما الستينيات" ، وكان يقصد الإشارة بالطبع إلى عقيدته عن مظالم الإخوان فى ستينيات عبد الناصر ، ولم تمض سوى أسابيع ، حتى كان مرسى نفسه يغير لهجته ، ليس عن صدق كامل ولا ناقص بالطبع ، بل مجاراة للشعور المصرى الفياض ، ويشيد باسم عبد الناصر فى قمة طهران لدول عدم الانحياز ، ثم لم يجد فى الاحتفال اللاحق بعيد العمال ، سوى أن يستعيد ذكر اسم عبد الناصر ، وأن يعد بإحياء مصانع جمال عبد الناصر ، وبعد زوال حكم مرسى ، وتصاعد الحملة ضد تنظيم الإخوان ، كان طبيعيا أن يستعاد اسم جمال عبد الناصر بقوة أكبر ، وعلى المنابر الرسمية بعد الشعبية ، فعبد الناصر لم يكن مجرد حاكم لمرحلة وعهد نهوض ، بل عنوان على حلم مصر الثورى العابر للعهود .
والظاهرة لا تخطئها عين ، وسواء كانت تحب عبد الناصر أو تكرهه ، ولها أسبابها الموضوعية جدا فيما نعتقد ، فسيرة عبد الناصر لم تكتمل أبدا ، ولم يغلق القوس على نهايتها ، فقد رحل عبد الناصر فى عنفوان رجولته ، ومات فى سنته الثانية والخمسين ، مات وهو يقاتل على جبهة الحلم ، كانت مصر قد لحقت بها هزيمة كارثية فى 1967 ، وتصور الكثيرون أنها نهاية عبد الناصر ، لكن زعامة الرجل ولدت من جديد ، وفى زحف شعبى تلقائى بالملايين ، شهدته الشوارع والميادين فى 9و10 يونيو 1967 ، ونزل الرجل المقاتل على إرادة الناس ، بعد أن كان قد أعلن قراره بالتنحى ، وأعاد بناء جيش مصر العظيم من نقطة الصفر ، وفى زمن قياسى لم يجاوز السنوات الثلاث ، وما كاد الاستعداد لحرب الثأر يكتمل ، حتى فاضت روح الرجل إلى بارئها ، وكان مشهد جنازة عبد الناصر هو الأكبر والأعظم فى مطلق التاريخ الإنسانى ، وكان اجتماع خمسة ملايين إنسان فى يوم الحزن العظيم ، وهتافهم التلقائى الذى لا ينسى ، والمنحوت من طينة أشواق وعذاب المصريين ، كان النشيد نشيجا ، وكان مطلعه يقول "يا ناصر يا عود الفل / من بعدك حنشوف الذل" ، كان النشيد نبوءة ، وإن تأخرت مواعيد تحققها قليلا ، وإلى ما بعد عبور جيش مصر الذى بناه جمال عبد الناصر لأكبر مانع مائى فى التاريخ الحربى ، وتحويله لاستحكامات خط باريف ـ من وراء قناة السويس ـ إلى ذرات من غبار ، وما كاد جيش المليون يجترح المعجزة ، ويعبر إلى النصر الموعود ، حتى كان ما كان بعد أن سكتت المدافع ، وخانت السياسة نصر السلاح ، وانقلب السادات على الحلم ، وداس الذين هبروا على دماء الذين عبروا ، ودخلت مصر فى نفق الانحطاط التاريخى طويل الأمد ، وإلى أن أفاق البلد من الغيبوبة التاريخية ، وبدأت رحلة الثورة المصرية المعاصرة بعناوين 25 يناير و30 يونيو ، والتى لا تزال سيرتها متعثرة حتى تاريخه.
المحصلة إذن ، أننا بإزاء قصص ناقصة لم تكتمل إلى نهاياتها أبدا ، فقد رحل عبد الناصر فى قلب الدراما ، وظلت القصة ناقصة ، وتعثرت الثورة المصرية المعاصرة ، ولم تبلغ نهاياتها بعد إلى النصر الموعود ، والثورة الناقصة كما الحب الناقص ، تثير الوجدان والخيال بأكثر مما تفعل القصص الواصلة إلى نهاياتها المكتملة ، وعلى طريقة خلود دراما قصص حب "عنتر وعبلة" و"روميو وجولييت" ، ثم أن قصة عبد الناصر ، وقصة الثورة المصرية المعاصرة ، ليستا قصتين منفصلتين ، ولا متعارضتين كما تصورهما أوهام اليمين الدينى والفلولى والليبرالى ، إنهما ذات القصة موضوعيا ، فقد ثار الناس ، وخلعوا الرأس فى حكم مبارك الطويل البليد الراكد ، ثار الناس لسبب يتصل بعبد الناصر رأسا ، فقد كان حكم المخلوع مبارك اتصالا لحكم السادات فى انقلاباته الخيانية بعد حرب أكتوبر 1973 ، والتى بدأت بحملة عاتية ضد اسم جمال عبد الناصر ، نهض بها إعلام الرجعية والثورة المضادة ، وشاركت فيها بحماس انتقامى جماعات اليمين الدينى التى استدعاها السادات ونفخ فى روحها ، وخططت لها المخابرات المركزية الأمريكية ، ومولتها فوائض البترو ـ دولار ، وكانت الحملة أشبه بستار كثيف من الدخان ، تقدمت من تحته قوى الثورة المضادة لتحتل مواقع السلطة ، ولتذهب بمصر إلى احتلال أمريكى سياسى حل محل الاستعمار البريطانى القديم ، وجرى تفكيك حصانة الدولة المصرية ، واقتلاع الركائز الصناعية والإنتاجية ، وشفط ثروة البلد ، وإضعاف الجيش ، وتحويل المجتمع إلى غابة أشباح ، ومن وراء شعارات تعمية ركيكة عن السلام والديمقراطية والصحوة الإسلامية وحكم الرئيس المؤمن ، وانتهى المصريون إلى مأساة الهجرتين ، الهجرة فى الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح ، والهجرة إلى التاريخ البعيد المختلط بظاهرة العودة الدينية المعممة ، وحين حاولت مصر النهوض من أكفانها بالثورة الشعبية المعاصرة ، فإنها واجهت وتواجه ذات المخاطر التى أقعدتها وانحطت بأحوالها لأربعين سنة خلت ، فقد انتحل اليمين الدينى ـ الرجعى بطبعه ومصالحه ـ صفة 25 يناير ، وكما تفعل "الفلول" أوجماعة مبارك الاقتصادية والأمنية ، وتنتحل صفة 30 يونيو ، وفى غيبة حزب قادر للثورة اليتيمة ، يصل بها إلى مواقع السلطة والتأثير والبرلمان ، وهو ما يدفع المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى ، وهم أغلبية الشعب المصرى بنسبة التسعين بالمئة ، يدفعهم إلى طلب النجدة الوجدانية ، وإلى البحث عن الصوت الأنقى والأصفى ، والمعبر عن جوهر الأحلام الموءودة ، وهو ما يفسر استدعاء المصريين بكثافة لاسم وصور وأغانى عصر عبد الناصر ، وجعله مستقرا ومستودعا لا ينفد إلهامه ، وطاقة حفز لمواصلة الدراما إلى نهايات لم تكتب بعد .