الشعب فى العيادة النفسية
الأحد، 26 يونيو 2016 09:03 م
لايعانى الناس عادة من الزلزال ، في حد ذاته رغم الهول العظيم المرتبط بلحظة استثنائية ترتج فيها الأرض ، من تحتنا ارتجاجا ينذر بالنهاية . إنها لحظة ، أو لحظات . إنها ثلاثون ثانية ، ربما تزيد أو تقل ،حسب المقدور ، لكنها تمضى مخلفة خسائر هائلة فى المبانى والمعانى . البيوت والنفوس .العذاب الحقيقي هو التوابع . ظلال الزالزال . هي أشد وطأة لكثرتها وإلحاحها وقدرتها المتصلة علي استدعاء لحظات الهول العظيم وقت الزلزال الرئيسى . تقع ساعات أمان بعدها وتهمد الفوالق الأرضية تحتك ، وبغتة يستأنف التابع الملعون لعبته في تحطيم وترويع النفوس .
ذلك يقع لنا على المستوى الجيولوجى . ذلك يقع للشعوب عامة ، فى أوقات التغييرات السياسية الكبرى ، العاصفة ، مما يمكن أن نطلق عليه وصف الزلزال السياسي . فى أعقاب الحرب العالمية الأولى ، وهى زلزال سياسي ، القتال العسكرى فيها هو الجانب الأبرز منها ، وقعت مضاعفات علي الأرض وفي النفس البشرية ، تواصلت ، لتنفجر مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية ، بأبشع الوسائل ، وأفدح الخسائر ، وتركت هي الأخرى آثارا وتوابع سياسية وعسكرية ، بل وعلمية وتكنولوجية درامية التأثير في حياتنا كلنا حتى الآن ، شرقا وغربا .
وفي مصر وقع زلزالان عظيمان ، عظمة أحدهما في قوة التخريب ، وشيوع ثقافة الفوضى والتحلل الاجتماعى والنفسي ، واختلاط المحرم بالمحلل ، وعظمة الثانى في يونيو ٢٠١٣ ، في قدرته الفائقة علي المجاهدة لاستعادة الذات والحفاظ على الروح والهوية النفسية والروحية . التوابع الناجمة عن زلزالى يناير ويونيو لا تزال تضرب في العمق ، ومن الصحيح القول أن التربة السياسية استقرت إلى حد بعيد ، والفوالق السياسية ركزت عند مستويات انزلاقها المقدورة ، لكن من غير الصحيح أبدا القول بأن الشعب ليس خارج أسوار العيادة النفسية !
لا عجب ألبتة إذن ما نراه من أهوال وفظائع ، في صفحات الحوادث والجريمة ، يأتيها مصريون ، حسبناهم عقلاء ، راشدين ، فى منازل مهنية ومادية رفيعة ، انتهى بهم المطاف وراء القضبان ، فى المحاكم وفى الزنازين ، ولا مصادفة أيضا ، من أى نوع ، فيما تطفح به الشاشة التليفزيونية المصرية من مسلسلات .
القاسم المشترك الأعظم في الرؤية الدرامية لمسلسلات الشهر الكريم هم المرضى النفسيون ، والمجرمون ، من علية القوم ، وأوسطهم ومن أسافلهم . مسلسلان يجسدان طفح الصرف الصحى النفسى للشخصية المصرية أكثر من غيرهما ، أحدهما يمثل عودة ملحوظة قوية للنجمة يسرا ، هو" فوق مستوى الشبهات "، والثانى" سقوط حر" لنجمة الاكتئاب والأدوار الصعبة نيللي كريم . وبينما صعد" فوق مستوى الشبهات" بيسرا وصعدت به واستردت به قطاعا واسعا من جمهورها ، يمكن أن نرقب تراجعا وئيدا لكن باضطراد لمكانة نيللي كريم ، اذا استمرت فى أدوارها الرمادية ، إلى أن تسكن مرتاحة فى مكان الفنان المختفى محيى اسماعيل . لا يختلف اثنان على موهبته قط ، لكنه يبقى مهجورا . هى تذهب إلى محارة سوداوية ، ينفر الشعب المأزوم نفسيا من مشاركتها فيها لأنه أصلا فى محارة أكبر منها . دخلتها بمهارة ومهنية وفن مطبوع في سجن النساء ، ولم تخرج من سجن السواد النفسى .
ما علينا ، نعود إلى " فوق مستوى الشبهات" . المسلسل يجسد بحرفية فنية ، صورة وحوارا ، وأداء ، حالة انفصام الشخصية التى تعيشها فينا الدكتورة رحمة حليم أستاذة التنمية البشرية فى كومباوند الأثرياء والأدعياء . نلاحظ أمرين مقصودين دراميا ، الأول أنها تحمل اسم رحمة وهى قاسية وفظة ودموية ومعقدة وقاتلة لزميلتها الطفلة وهي بعد فى مدرسة داخلية بريطانية اضطهدوها فيها ، وان لم تقصد ، ثم قاتلة عمدا لطبيبها النفسى ، وسجانة لأمها وأختها ، انتقاما منهما . والثانى أنها متخصصة فى التنمية البشرية العملة الزائفة الرائجة في أيام التوابع هذه . لا أقصد بالطبع وبالقطع إلى زيف علم التنمية البشرية ، بل أقصد أنه صار مهنة من لا مهنة له . مثل الصحافة مهنتنا العظيمة ، صار القلم بديل المفك فى أيدى البلطجية وقطاع الطرق ، والمبتزين وزارعى الحناجر الميكروفونية. صار متخصصو التنمية البشرية من الادعياء ، مثل السادة الوعاظ الجدد ، والمفتون الجدد .
الوعاظ والمفتون يفتون في فتة الخوف من الآخرة ، وتبرير وبيع الفتاوى التى تمنحهم رخصة الترخص فى محارم الدين ، وبتوع التنمية البشرية من الأدعياء ،الدخلاء على هذا العلم النافع حقا ، يدلون بجرادلهم ، التعبير الأصلى بدلوهم وجمعها دلاء ، فى عفن وركود التربة الاجتماعية والنفسية المصرية الآسنة من بعد زلزال يناير . الدكتورة رحمة تزوجت تاجر مخدرات وزعيم عصابة قبيح الوجه والنفس ، دميما ، اختاروا له النجم سيد رجب . هو في الحقيقة مثال ساطع مطابق لدمامة رحمة من الداخل . هو مكشوف الشر مستور الجمال . هى مستورة بجمالها ، لكنها فى الحق ، سيد رجب ، أو عز العاشق صبابة ،المتيم بجمالها . هو يهرب من دمامته الداخلية إلي جمال خارجى يركع أمامه ويقبل المذلة والهوان والاهانة ، وهى تهرب من جمالها وبهائها إلى عالم القتل والتشهير بالآخرين . حين أرى مشاهد الاذلال والاهانة التى طرفاها رحمة وعز ، (تقول له كنت بقرف منك وانت نايم جنبى) وانظر دلالة الاسمين ، رحمة هى العذاب وعز هو ذل ، فإننى أرى فى نهاية المطاف أن رحمة تتعمد أن تذل نفسها وتهينها وتحقرها وتريد وأدها ، معترفة بحقارة وسواد أعماقها وانتشار بذور الشر فيها ..بأكثر مما تريد إلى اذلال رجل طلقها ، ويتمنى العودة إليها .
لا يهمنى من كل أحداث المسلسل سوى هذا الصراع المحتدم بين جمال قبيح وقبح ينشد الجمال .
أليس هذا هو نحن .. خارج العيادة النفسية حاليا وإلى حين ؟!
نعم هو نحن ولا أحد يحنو .