الكاب والقلم والميزان: للتباهي أم للردع الاجتماعي؟
السبت، 18 يونيو 2016 11:15 م
لست أنوى إلى دخول فى فاصل من الوعظ والإرشاد ، ولا عزم ولا عزيمة لدى لأعتلى منبر مسجد فيه عشرة مصلين أو بضع الآف ، بل بى في الحقيقة نزوع الى الصراخ ، الصراخ الحاد المأزوم ، يعقبه بكاء ، بكاء النهنهة ، والقنوط !
إن الشارع المصري بكافة طوائفه ومشتملاته ، شارع بلطجى ، عصبجى منفلت ، خلقا وأداء وحركة ، ولا أعفى نفسي بطبيعة الحال . أقولها ، وأعلم ما ستجره من عواقب وتداعيات ، ونظريات تتهمنى بالتعميم ، وباننى شملت فيما قلت ملائكة أبرارا يسبحون حولنا بأطواق الزهور ، وينثرون على أعصابنا الملتهبة رشات وزخات من العطور !
فلنواجه أنفسنا بمنتهى الشجاعة والصراحة ولنتأمل نتائج تحاليل الدم الجماعية ، والأشعة المقطعية للناس في الشوارع ، ناهيك عما يحدث منا تحت جنح الظلام . نحن نمارس العنف الاجتماعى ضد بعضنا البعض ، عمدا أو جهلا ، استقواء ، أو استهبالا ، ليس يهم الظرف ولا التوصيف ، بل يهم أن نعترف بأن الشارع المصرى والمجتمع المصرى يستمتعان بحالة من السادية ، يعذب بعضه بعضا . تواجه الدولة الارهابيين علي بوابات الوطن وأطرافه ، بينما يشتبك المواطنون العاديون ، الآحاد ، والخاصة في شتائم وضرب ورفص ، وسباب وسرقات واغتصاب ، وتمثيل بجثث ، وتمثيل بأعراض . السرقات والاغتصابات والقتل مجالها المحاكم والقانون ، اما السلوكيات القذرة اليومية فهى السرطان المتفشي المنتشر ، الذى جعل الناس فى حالة صدام يومى ، وحرق دم وحرق وقت وحرق فلوس ، وحرق موارد. هيا بنا نرصد ما نواجهه منذ اصطباحة اليوم . تخرج من بيتك ، راكبا سيارتك ، أو منتظرا سيارة من نوع البغل الأبيض المسمى التاكسى الأبيض ، وهو في رأيي جاموسة بيضاء ، وإذ فجأة تحاصرك الكلاكسات ، بسبب وبدون سبب ، زمارات تدوى وصفارت تصم الآذان ، تقفل ودانك ، باصابعك أو تسحب زجاج سيارتك ، وتستعيذ بالله وتستدعى مخزون الصبر ، وتمشي خطوتين ، وإذ فجأة تنطلق نحوك دراجة نارية ، تتفاداها بحركة زجزاجية بهلوانية فى آخر لحظة أو لا تتفاداها ، انت وحظك والمقسوم لك ستراه حتما ، أو تجد السيد توكتوك يعانق فوانيس اكصدامك ويهشم زجاجك ، ويصير النهار إلى سواد .
بتاع التوكتوك ممكن تأخذ وتعطى معه ، ربما يصعب عليك ، ربما تعتذر له انت في نهاية المطاف ، خوفا من رد فعله البلطجى ، ان يحرق لك قلبك على حد من اولادك او علي سيارتك ، لكن مابالك لو ان المعتدي عليك احتمى بجبروت مهنته ، حقا او زيفا ؟
بصراحة ليس كل من وضع بادج صحفي هو صحفى ، وليس كل من لصق بادج الجامعة هو بروفيسير في جامعة برنستون المصرية او هارفارد الصعيد ، وأيضا ليس كل من لصق بادج العدالة الموقر هو نيابة وقضاء ، وليس كل من لصق الكاب هو شرطة . هذا منطقى ، ربما كان المالك الاصلى كذلك . صحفيا او شرطيا او نبيلا ، او قاضيا أو وكيلا للنائب العام، ولما باع سيارته ، احتفظ المالك الجديد بالدرع الاجتماعى المهنى المعهود ، ليس فقط ليحميه بالردع ، بل أيضا ليحميه بالتهجم .
ولنمض الى خطوة أبعد فى اتجاه الحق وعلى طريق الصراحة ، فإن هذه الشارات المهنية هي نوع من أنواع التمييز الاجتماعى ، بينما الدستور يقطع بأننا جميعا متساوون في الحقوق والواجبات ، وكثيرون اعتبروا شارة الصحافة ، وشارة الشرطة وشارة العدالة ، وشارة الطب بمثابة تحذير : ممنوع الاقتراب ، خلى بالك أنا قلت لك أنا مين ، ذنبك على جنبك وجنب اللي خلفوك ! هذه البادجات تغنى صاحبها عن ترديد القول المصري المأثور الذى صار مبعث سخرية : انت عارف انت بتكلم مين يا ولد ؟!
حين نردع الآخرين باشارة عن مركزنا الاجتماعى والوظيفى ، وحين نمارس تخويفهم وترهيبهم ، باشارة كاب أو ميزان او قلم صحفى ،فنحن نأخذ لأنفسنا دورا هو من صميم دور القانون ، ونصيب الآخرين بأمرين :
التقليد زورا أو صدقا ، والاعتداء على نفوس الناس و حرمات الشارع . ليس هناك من سبب على الاطلاق يدعو لتعليق ولصق ووضع الشارة المهنية إلا التباهى والردع والتخويف. طبعا فى أوقات الفوضى بعد خمسة وعشرين الأسود، المسمى يناير ، سارع كثيرون من هؤلاء إلى نزع الهويات الاجتماعية والمهنية ، وتبرأوا من وظائفهم ، لحماية أرواحهم وأسرهم ، واليوم ، ومع الاستقرار الأمنى الكبير نسبيا ، نرى التجبر وقلة الذوق ، واللامبالاة عنوان حركة مهنيين في الشوارع . لا أعرف إن كان المواطن الأمريكى يضع هوية اجتماعية أو مهنية أم لا على سيارته ، والحقيقة أنى لم ألحظ ذلك رغم اقامتى في الولايات المتحدة عاما ونصف العام ، ولم ألحظ فى دول اوروبية زرتها ملصق التباهى والردع الاجتماعى هذا . لكن أنت في مصر . نحن ننفرد بالفقر والعنطزة والتباهى .
السطور أعلاه من وحى جبروت السيارة رقم ٤٥١٥ أ ج
تحمل بادج العدالة ، الميزان المقدس ، ضربتنى في شارع يفضي الي ميدان لبنان الاحد الماضى ، الساعة الرابعة الا الربع تقريبا او بعدها ، وكانت بالسيارة سيدة ، التحم مقدم سيارتها بمؤخرة سيارتى وزحزحت باب الحقيبة ودخلت في الاكصدام . نزلت لأتفحص ولأحصل علي تفسير أو تهدئة أو كلمة جبر خاطر ، فما نظرت المرأة الي نظرة أو بعض نظرة ، انما واصلت الرغى في الموبايل ، وانا واقف اصيح : ينفع كده ، طب اعتذرى ، لازم تعتذرى .
هربت بمجرد فتح الاشارة وتركتنى اعانى مشاعر مهزومة ، واهانة وقهرا !
هل هي من اسرة العدالة التى نوقرها ونربأ ان يكون منها من أعطى سيارته لسيدة هذا سلوكها ؟!
أشك .
هل هى من غير أسرة العدالة ؟!
أشك .
لا يهم ، فقد ابتلعت دمى المحترق بعد ليلة من الغيظ والتصبر ، لكننى وبحرقة ادعو المشرع المصرى وقانون المرور المصرى إلى نزع ملصقات الردع المهنى الشائعة ،إذ يحتمى وراءها مرضى او مغرورون ، او مغامرون .
أخلاقنا فى مقابر على الطريق .. إلى جهنم
القانون يحظر الشارات الدينية لأنها تفتح باب الفتنة الطائفية
كذلك ستفعل الشارات المهنية المميزة .. ستفتح ابواب الفتنة الاجتماعية .. يعنى انقلاب المجتمع كله على بعضه ، وهو أشد وألعن !