شاهندة أم المناضلين
السبت، 11 يونيو 2016 09:37 م
أتوقف هذا الأسبوع عن الحديث عن مؤتمر إيران والعرب الذى حضرته مؤخرا فى بيروت نظرا لرحيل المناضلة شاهندة مقلد. ولها علينا حق وواجب فى حياتها وبعد رحيلها. ويسرنى أن أذكر هنا قول الشاعر :
الناس صنفان موتى فى حياتهم *** وآخرون ببطن الأرض أحياء .
نعم طوى الموت صفحة حياة المناضلة المصرية العربية شاهندة مقلد ، ولكن الموت لم يطو تاريخها العظيم بل ثبته وأكده، ليكون نبراساً أمام الرجال والنساء من الوطنيين المخلصين لأوطانهم مهما كانت توجهاتهم الفكرية، وأمام أهل النضال والكفاح والجهاد. يشهد لها كل من عرفها فى مصر والعالم ، وكل من يعرف تاريخها العظيم، وتاريخ أسرتها فى النضال ضد الإقطاع والظلم والفساد ، ويشهد بذلك كل من عمل معها وكان على الطريق، بما فى ذلك إسهامها لتحسين حقوق الانسان فى مصر.
كتب عنها فى حياتها ، وعن المآسي التى تعرضت لها منذ شبابها المبكر الراحل أحمد فؤاد نجم ، رحمهما الله تعالى . كتب فى قصيدته " رسالة الى سجينات حبس القناطر سنة 1981) كتب يقول:
النيل عطشان يا صبايا
للحب والحنين
والشط لانور ولا نسمه
ولا ناي ولا عود يا سمين
يا شاهنده وخبرينا
يا ام الصوت الحزين
يا ام العيون جناين
يرمح فيها الهجين
إيش حال سجن القناطر
إيش حال السجانين
إيش حال الصحبة معاكي نّوار البساتين
----
محابيس كلك يا بهية
وهدومك زنازين
والغيطان الوسيعة
ضاقت ع الفلاحين
والدخان في المداخن
لون هم الشغالين
يا بلدنا يا حاجة عجيبة
يا أم المستعجبين
اضحك من همي عليكي
وألا أبكي مع الباكيين
عصافير الحب حزاني
كامشيين ومقصقصين
والغربان والحدادي
فاردين ومريشين
----
يا بنات النيل يا سبايا
ف حبال الجلادين
ما بقاش في زمانكم عنتر
لكن فيه الملايين
فارس محسوب الخطوه
يتحرك بالقوانين
لحظة ما تحين الساعة
يركب ضهر التنين
ويحطم الحواجز
ويفك المسجونين
وقد حدث ما توقع الرجل، وحطمت الثورة الحواجز وفكت المسجونين، ولكنها للأسف الشديد تركت التنين فى صوره العديدة.
أعرف شاهندة مقلد ، كما يعرفها كل المتابعين وخصوصا المناضلين ، ولكننى أعرف أسرتها معرفة شخصية من الجد الى الوالد الى الأعمام ، الى كبار الأسرة والأقارب. كان والدى رحمه الله تعالى الحاج توفيق الهلباوى، على صلة منذ الثلاثينات فى القرن الماضى بالشيخ على مقلد ، جد شاهندة، رحمهم الله تعالى ، وكان يروى لنا ونحن صغارا، بعضا من حياة الشيخ على مقلد، وبعضا من مواقفه العظيمة ضد الإقطاع وخصوصا فى قرية كمشيش، التى تبعد 2 كيلو مترا فقط عن قريتنا كفر البتانون – مركز شبين الكوم – منوفية.
كنا نتحلق حول الوالد فى القرية الصغيرة ، وكان يتحدث لنا وخصوصا فى المناسبات، وأيام الانتخابات خصوصا فى العهد الملكى عن حزب الوفد والمصريين الأحرار وعن السعديين وعن مصر الفتاة وعن الشيوعيين وعن الحركة الوطنية عموما. وكانت علاقته بالشيخ على مقلد وحكاياته عنه وعن كمشيش تعجبنا كثيرا وبالأخص فى ناحيتين، الناحية الأولى هى، قصص الكفاح ضد الاقطاع والظلم والاستغلال وسعيا الى تثوير الفلاحين وتحقيق كرامتهم، والناحية الثانية هى الاهتمام بالتعليم، وتربية الاولاد رغم كثرتهم. ومن أهم ما روى الوالد لنا عن الشيخ على مقلد - عمدة كمشيش – أنه كان يثمن تربية الاولاد أكثر من الارض الزراعية العزيزة على قلوب الملاك وخاصة فى المنوفية ، على عكس كثير من المزارعين والفلاحين فى ذلك الزمان، فكان الشيخ على مقلد يبيع من ارضه ليعلم الاولاد ويقول، إن تربية الابن الواحد أغلى وأعز من عزبة كاملة . وكان أولاد الشيخ على مقلد – على كثرة عددهم - كلهم فى مناصب رفيعة فى شتى الميادين بسبب هذه النظرة المستقبلية البناءة. وكان كل منهم فعلا أغلى من مجموعة عزب وليس عزبة واحدة.
معرفتى بآل مقلد قديمة ، منذ الطفولة ثم ازددت معرفة بهم عندما إستقبلنى فى سنة 1951 فى مدرسة المساعى المشكورة الثانوية فى شبين الكوم الشهيد صلاح حسين ، وكان آنذاك طالبا متميزا بها فى السنوات الأخيرة من المرحلة الثانوية وكان آنذاك من الاخوان المسلمين الذين يستقبلون الطلبة الجدد لاستقطابهم وتقديم الخدمات المناسبة إليهم، قبل أن يتحول الى الفكر اليسارى والاشتراكى.
كان صلاح حسين متميزا فى هذه العلاقات ، وكان أخوه " حمودة حسين" من أبطال الملاكمة والجمباز فى نفس المدرسة . إستشهد صلاح فى سنة 1966 ، بعد أن استشهد قبله أخوه الأصغر" حمودة " الضابط الطيار فى اليمن أثناء حرب اليمن.
أقول، كان من الممكن أن تحيا شاهندة مقلد حياة هانئة مريحة تقليدية، مثل كثير من النساء فى مصر، ولكنها إنحازت الى الفلاحيين والعمال والفقراء، وتزوجت من إبن خالتها المناضل صلاح حسين وفضلته على غيره من الأزواج التقليديين رحمهم الله جميعا. ذكر الرئيس جمال عبد الناصر صلاح حسين - بعد استشهاده- فى إحدى خطبه عندما تحدث عن الخطر الذى يمثله أعداء الثورة ، إشارة الى الاقطاع فى كمشيش .
مرت فترة فى حياة شاهندة مقلد – بعد وفاة جمال عبدالناصر – وفى عصر السادات ومبارك تعرضت فيها للاعتقالات والسجن. اعتقلت شاهندة عدة مرات منها فى سنة 1971، وسنة 1975، وسنة 1978 ، وسنة 1981، وخصوصا عندما كانت تقود الفلاحين للثورة ضد الظلم والاقطاع أو عندما كانت تصر على الاحتفال بذكرى استشهاد زوجها . لقد حوَّل نضال شاهندة وإستشهاد زوجها - وإلتفاف الثوار حولهما – حولت كمشيش الى مزار للمفكرين والثوار والفلاسفة حيث كتب عنها بعض المفكرين منهم " إيريك رولو" ، و"جان بول سارتر"، وغيرهم.
أما تجربتى العزيزة مع شاهندة مقلد، فكانت، أيام المنفى الطويل حيث كنت أراها مع زميلاتها وتلميذاتها المناضلات مثل د. كريمة الحفناوى فى مظاهرات عديدة ضد النظام المباركى الفاسد، وهن يتعرض للاهانة ، ولا يوهن ذلك من العزائم ، فكنت أوقن وقتها أننى لابد لى من العودة الى مصر، مرفوع الرأس مشاركا فى القضاء على الفساد والظلم أو على الاقل مواجهة ذلك الفساد. والحمد لله تعالى الذى أراني نهاية عصر مبارك ، ولعله يكون عظة لغيره من الحكام والمسؤولين، وخصوصا من يريد أن يكتب تاريخا عظيما , وأن يتبوأ زعامة شعبية يشهد بها المخلصون، ولا يروج لها ظلما المنافقون. عرفتها كذلك فى العمل بالمجلس القومى لحقوق الانسان، سواء نجحنا أو لم ننجح فى كل ما سعينا إليه، إلا أننا سعينا وسنسعى مادام فى العمر بقية الى تحسين أوضاع حقوق الانسان فى مصر. كانت شاهندة، مناضلة، بصبرها فى السجون التى أدخلت إليها وبزياراتها المتعددة للسجون – فيما بعد - مع الزملاء من المجلس، وباتصالاتها ومحاولاتها العديدة لمناصرة المظلومين وفك أسرهم.
رحم الله جميع موتانا، ورحم الله تعالى شاهندة مقلد وأدخلها فسيح جناته، وهنيئا لآل مقلد ولنا، بأم المناضلين شاهندة وتاريخها الجميل، ورحم الله جدها الشيخ على مقلد والأسرة، ورحم الله أجدادي وأبائى، وأجدادكم وآباءكم، أيها القراء وكل عام وأنتم بخير، ولا ينبغى أن ننسى ما حيينا أن "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ" و"قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ". وبالله التوفيق.