عبد الحليم قنديل يكتب.. برلمان بطعم العار

الجمعة، 23 أكتوبر 2015 06:14 م
عبد الحليم قنديل يكتب.. برلمان بطعم العار
عبد الحليم قنديل

لا أعرف إسم «العبقرى» الذى نصح الرئيس السيسى بتوجيه خطاب للشعب صبيحة بدء الانتخابات البرلمانية، ولم يكن من عيب فى نص الخطاب بذاته، ولا فى دعوة الناس للمشاركة، ولا فى مخاطبة كل فئة باسمها على الطريقة العاطفية التى يفضلها الرئيس، لكن المشكلة كانت فى التوقيت القاتل، وفى توريط الرئيس بدعوة الناخبين إلى الخروج حشودا، بينما كان يعرف القاصى والدانى أنه لا حشود ولا يحزنون، وأن الجواب ظاهر من عنوانه، وأن الرئيس يوجه خطابه إلى الفراغ لا إلى الشعب، وفى لحظة خواء وفوات منذرة بالخطر، وفيما بدا معه أن ما جرى كان رد الشعب على نداء الرئيس، وأن امتناع الناس بأغلبيتهم الواسعة عن الذهاب لصناديق الانتخابات العبثية، والمقاطعة التلقائية هى استفتاء بالسلب على شرعية الرئيس نفسه.

نعم، ورطوا الرئيس، وجعلوه طرفا مباشرا فى المأساة، بينما قال السيسى مرارا أن لاعلاقة له بانتخابات البرلمان، وأن ليس له مرشحون ولا قوائم، وكان ذلك حيادا مطلوبا من الرئيس، لكن الذين نصبوا أنفسهم رجالا للرئيس، ومستشاروه ومكاتبه الإعلامية الركيكة المليئة بالفرافير، وأجهزة أمنية أرادت تطويق الرئيس وعزله عن الناس، وتحميله مسئولية ممارساتها الجهولة، كل هؤلاء، وأغلبهم من صنف جماعة مبارك وفلولها، ومن شبكة المصالح نفسها المرتبطة برأسمالية المحاسيب، كلهم أرادوا توريط الرئيس معهم فى المستنقع، وكذبوا عليه، وصوروا أن كل شئ تمام، وأن الناس جاهزة، وما إن تسمع كلمة السيسى، حتى تتدفق حشودها إلى مقار اللجان الانتخابية، ولكى «تبهر العالم» على حد تعابير «الهرتلة» التى يكررها جنرالات و"بلياتشوهات" الإعلام الملوث، ولم يلتفت أحد منهم إلا بعد أن وقعت الفأس فى الرأس، وعبر رئيس أركان الجيش الفريق محمود حجازى عن صدمته، وهو يجول على استعدادات الشرطة والجيش لتأمين الانتخابات، وفوجئ بالغياب المذهل للناخبين، وقال أن كل شئ متوافر إلا وجود الناخبين بكثافة، وأن سبب الغياب أنه «فيه حاجة كبيرة ناقصة» على حد تعبير حجازى القريب من عين وسمع الرئيس.

ولم يكن ما جرى مفاجأة لأحد عاقل، ولا "الحاجة الكبيرة الناقصة" مجهولة، فلم نكن فى الأصل بصدد انتخابات تستحق الوصف، ولم نكن بصدد اختيارات مطروحة على الناخبين، بل بصدد "بورنو سياسى" فضائحى، وبصدد "وجبة مسمومة" عافتها نفوس الناس، وكان شعور اللامبالاة بالانتخابات المزعومة ظاهرا بغير التباس، وقبل شهور من موعد الانتخابات الذى تأجل بحكم المحكمة الدستورية، وقد كتبت وأذعت الأمر كله مرارا وتكرارا على مدى شهور، وأعدت التأكيد على توقعاتى كاملة فى المقال الأخير قبل الانتخابات، وهى التى تحققت كلها بالحرف، وكأنى كنت أقرأ من كتاب مفتوح، فقد توقعت إقبالا "محدودا" و"مخجلا" و"مخزيا" على الانتخابات المسمومة، وقلت أن نسبة التصويت فى المرحلتين الأولى ـ والثانية المنتظرة ـ

لن تتجاوز فى أفضل تقدير مابين خمس وربع الناخبين، وهو ما تحقق بالحرف فى نسب الإقبال المحققة بالريف والمدن، ومع انحسار شبه كلى للإقبال فى المدن الأكثر وعيا، وقلت ـ أيضا ـ أن غالب المرشحين سوف يدخلون إلى مرحلة الإعادة، وبسبب الكثرة النسبية لمرشحين متنافسين فى الضعف والهزال والتهافت، وهو ما تحقق بالحرف، ولم ينجح من أول جولة ـ على المقاعد الفرديةـ

سوى عدد أقل من أصابع اليد الواحدة، وقلت أن قلة الناخبين المستعدين للمشاركة، سوف تنعش عملية شراء أصوات محمومة، وبهدف تسول عطف الناخبين، بالدفع نقدا، وهو ما جرى بالحرف، وإلى حد أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الناخبين المصوتين ذهبوا للصناديق مدفوعين بالرشاوى المباشرة وبالقرابات العائلية، أو بطرق النقل الجماعى التى سلكتها الأجهزة والمرشحون الأثرياء، وقلت أن نسبة الإقبال المتدنية، ومع كثرة الأصوات الباطلة، بسبب عشوائية القانون الانتخابى وفانتازيا تقسيم الدوائر، قلت أن ذلك سيؤدى إلى برلمان متهافت كجناح بعوضة، بلا قاعدة شرعية تسنده، وبلا مقدرة على النهوض بصلاحياته الدستورية، وهو ما تحقق بالحرف، والعينة بينة، فالبرلمان المقبل لايمثل سوى أقل من 2% من الشعب المصرى، خاصة بعد إجراء انتخابات الإعادة، والتى تتضاءل فيها نسب التصويت إلى ما يقارب الصفر، أو يعلوه بقليل، فهذا برلمان لا ينجح أعضاؤه إلا فى الملاحق، تماما كالتلاميذ البلداء الأغبياء فى النظام التعليمى المنهار، وقد تحقق ما قلته بالضبط، وتبقى التوقعات عن الاحتمالات شبه المؤكدة لحل البرلمان العبثى، والذى ستلهو به السلطة ويزدريه الناس، وتحق فيه سخرية المصريين اللاذعة، وعلى طريقة انتخاباته "العائلية الضيقة" التى يقتصر حضورها على المرشحين وأهلهم الأقربين، وأن عدد المرشحين لمقاعده أكبر من عدد الناخبين المصوتين (!).

وبالطبع، لم أكن أقرأ الرمل، ولا أضرب الودع، ولا أرجم بالغيب، حين توقعت ما جرى قبل شهور طويلة، وعلى طريقة توقعاتى لخلع مبارك وزوال حكم الإخوان قبل الزمان بزمان، وأنا لست ـ لا سمح الله ـ متنبئا، ولا "أخاوى" الجن، بل "أخاوى" الشعب المصرى، وأنصت لنبضه، وأتعلم من حكمته، التى دفعت لمقاطعة الأغلبية الساحقة للإنتخابات هذه المرة، ليس لأن أحدا دعا لمقاطعة سياسية، ولا استجابة بالطبع لدعوة الإخوان إلى الابتعاد عما وصفوه بانتخابات الدم، فقد صار "الإخوان" شيئا على هامش الهامش فى مصر، لا يكاد أحد يسمع صوتهم، ولا يتلمس تأثيرهم بعد تراجع عمليات الإرهاب، والأدلة على ما نقول ظاهرة ساطعة، سواء فى زمن الإخوان، أو بعد خلع حكمهم شعبيا، ففى زمن الإخوان، قاطع الشعب كله تقريبا انتخابات مجلس الشورى، وتواضعت نسب التصويت إلى 5.12% فى الجولة الأولى، وإلى 5.7% فى انتخابات الإعادة، وفاز وقتها الإخوان والسلفيون بالمقاعد كلها تقريبا، وظل مجلس الشورى يحكم مع مرسى إلى يوم العزل، وبعد ذهاب حكم الإخوان، كانت نسبة الإقبال على استفتاء الدستور الجديد تصل إلى نحو الأربعين بالمئة.

بينما كانت نسبة التصويت قبلها على دستور الإخوان أقل من 33 بالمئة، وكانت نسبة الإقبال على التصويت فى انتخابات رئاسة السيسى تقترب من الخمسين بالمئة، برغم غياب التنافسية التعددية الواسعة التى ميزت انتخابات الرئاسة فى 2012، والتى جرت فيها جولة الإعادة بين محمد مرسى وأحمد شفيق، وكانت نسبة التصويت فيها أقل، وفى حدود 46% من إجمالى الناخبين، وكان عدد الناخبين المسجلين أقل وقتها، فى حين يصل الرقم الآن إلى 55 مليونا ونصف المليون، والأمثلة المذكورة كاشفة، غير أنها لا تخفى الضعف المريع لنسبة الإقبال على الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتى هى أقل من نصف نسبة التصويت فى أول انتخابات برلمانية بعد ثورة يناير، والتى انتهت إلى "مجلس شعب" جرى حله بحكم المحكمة الدستورية، والمعروف أن نسب الإقبال على الانتخابات البرلمانية تكون أعلى فى العادة من النسب ذاتها فى استفتاءات الدساتير وانتخابات الرئاسة، وهو ما حدث عكسه بالضبط هذه المرة.

هل من تفسير مقبول ومعقول بعد استبعاد التفاسير العليلة الجاهزة ؟، لا قيمة عندى للتفسير الإخوانى، ولا لتفاسير الإعلام الفلولى الجهول، والذى إنهال لوما وتقريعا وإهانة للشعب المصرى، وبعد أن "باسوا الجزم" تسولا لعطف الناس، ودفعهم للتصويت، وكان رد الناسـ فى أغلبيتهم الساحقة ـ قاطعا حازما، تركوا المتسولين "يبوسون الجزم"، واستمروا فى ملحمة المقاطعة التلقائية الفريدة لصناديق العبث الانتخابى، وما من تفسير انتخابى يكفى، فلم تعرض انتخابات حقيقية على الناس، ولا فرصة لاختيار، بل مجرد "طبخة" مسمومة، تدور فيها حرب الفلول ضد الفلول، وحرب الفاسدين ضد الفاسدين، وبنظام انتخابى فردى، يهدر غالبية الأصوات، ويعطى الأولوية لجماعات المال والبلطجة والعصبيات، ولا يفرز سوى برلمان مختار لأقلية الأقلية، وهو ما دفع الناس إلى مقاطعة تلقائية، فلم يعد المصريون كما كانوا قبل الثورة.

ولم يعد "الختم على القفا" واردا، وصاروا شعبا آخر تغلب عليه نزعة النقد الكاشف النافذ، ومع "نفاد الصبر" الذى حل محل الاستكانة القديمة، وقد فهموا ما يجرى دون لجاج كثير، وأدركوا أنهم بصدد برلمان فلول وثورة مضادة بامتياز، وقرروا إسقاط أى شرعية لبرلمان جماعة مبارك قبل أن يتشكل، وقرروا جعله "معلقا" قبل أن يصير "مطلقا" بقرار حل دستورى، ونظموا أوسع عملية عصيان مدنى تلقائى، وبعشرات الملايين ذاتها التى خرجت لإنهاء حكم الإخوان، كان العصيان الشعبى هذه المرة على طريقة "خليك فى البيت"، والامتناع عن الذهاب لصناديق التزييف، ودون إغلاق الباب على إمكانية تطوره إلى غضب ناطق بعد الغضب الصامت.

فقد قال الناس بوضوح رأيهم فى البرلمان الأجرب، قالوا ببساطة: أنه برلمان لا يخصنا ولا يمثلنا، وأنه برلمان بطعم العار، وأنه يأخذ من شرعية الرئيس نفسه، ويورط الرئيس فى شراكة مع الفلول وجماعة مبارك، وينتقص من دواعى الأمل فى إنجاز السيسى الذى يحكم بالنظام القديم نفسه، ويتحمل أوزاره، ويتردد فى خوض المعركة الحاسمة ضد الفساد الذى يشكل الحكومة والبرلمان، وقد أنذر الشعب الرئيس بالعصيان التلقائى الواسع، قال الشعب كلمته، وهو بانتظار استجابة الرئيس التى تأخرت، وبصورة تهدد بغضب اجتماعى تتوالى إشاراته، وقد تعجل به قرارات أخرى خاطئة اقتصادية واجتماعية متوقعة قريبا، تزيد الإحباط، وتراكم السخط، وتعجل بانزلاق إلى مهاوى خطر لا تحمد عقباها.

[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق