الشعر وما بين الكلمات
الأحد، 24 أبريل 2016 04:19 م
نستكمل فى هذا المقال، الصورة الكبيرة عن الأمسية الجميلة، أمسية مناقشة أو تقريظ ديوان : بين الكلمات، للشاعرة مريم توفيق فى نادى الأدباء يوم السبت الماضى 16/4/2016.
شارك فى المناقشة والحوار الراقى من على المنصة الأستاذ زينهم البدوى الاعلامى والشاعر الكبير، الذى أدار الحوار بإقتدار وأريحية وإبتسامة محببة. كما شارك فى النقد والتقويم الاستاذ الدكتور حسام عقل ، البارع فى النقد الأدبى ، فضلا عن كاتب هذا المقال . كما شارك فى التعليق عدد لا بأس به من الحضور من عشاق الشعر والأدب . أثنى الجميع على " الديوان" ثناءاً عاطراً. ومما اثرى الأمسية وزادها إمتاعاً، العزف الجميل على الكمان من الأستاذ / عبد الرحمن العربى من أساتذة معهد الموسيقى العربية المتميزين، والايقاعى البارع محمد السعودى.
مقدمة الديوان التى وضعها الاستاذ الدكتور/ حسام عقل، تقدم للقارئ الذى لم يحضر الأمسية صورة واضحة لمحتويات الديوان ، وتطوف به بين الشرق والغرب، والأدب والفن، والشعر والنثر ، وقد جاء فى تعليقه وفى تلك المقدمة التى تشرح قصيدة النثر والتخليق الفني الجديد في تجربة مريم توفيق بديوانها الجديد: ( بين الكلمات). كتب الدكتور حسام: " تؤسس المبدعة ( مريم توفيق ) لذاتها , مساحة في سجالات النقد الحداثي المتصل بهذا النوع الأدبي الإشكالي ( قصيدة النثر ) . ونعاود مع الديوان الجديد طرح مزيد من الأسئلة النقدية الحائمة بقوة ومضاء، في فضاء هذا الجنس الأدبي , حيث تتصل الأسئلة مجددا بالتكوين البنيوي لقصيدة النثر , وطبيعة مفاجآتها التقنية الزاخرة بالوعود والمتكئة على تفجير حس الإدهاش و المباغتة , فضلا عن نمط تشكيلها الإيقاعي المفارق للعروض الخليلي جذريا بقطيعة إبستمولوجية كاملة مع تفاعيله وزحافاته وعلله وأنماط تقفيته , هو النمط الذي تواضع النقاد _ بطريق التواطؤ والشيوع _ على وسمه ب ( إيقاع الطقس ) أو ( الإيقاع الوتري ) الذي يخلقه زخم الصور والأفكار ونسق الأخيلة في حراكها السيمفوني المنغوم .
وبقطع النظر عن مدى التوفيق الجمالي الذي أصابته قصيدة النثر في بلوغ أهدافها المعلنة أو المضمرة , التي كانت ترومها منذ انبثاقاتها الأولى , فإن تجربة ( مريم توفيق ) الجديدة , تمتد بأنساقها الفنية المتشكلة , مع ميراث هذا النوع الأدبي , منذ وضع ( حسين عفيف ) بذرته الأولى في مطالع القرن الماضي مرورا ب ( أنسي الحاج ) و ( الماغوط ) ورصفائهما .
وتحفل تجربة ) مريم توفيق( الجديدة بجملة سمات فنية . فمن جملة هذه السمات الفنية حفول القصيدة بملمح ( سردي ) لافت لا تخطئه العين . وهذه الخصيصة السردية تتكيء في الأعم على ضمير المتكلم , كأنما تقص الذات الشاعرة ( سيرة ذاتية ) أمكن تشعيرها في مراحل وحلقات متلاحقة , يأخذ بعضها بحجز بعض , فيما يعد استمرارا وضاء لظاهرة ( تراسل الأنواع الأدبية ) , ويتبدى هذا بسطوع لافت في قصيدة الاستهلال :
( أمس حارق ) , حيث تغدو القصيدة نبضة سردية متكاملة الأطراف , فضلا عن كثافتها الشعرية / الأسلوبية التي تضمن لها آصرة الصلة المتجذرة بالقصيدة في نسقها الغالب و تكويناتها البنيوية الواسمة.
ويضاف إلى هذه السمة الفنية , سمة أخرى تتمثل في غلبة ( الطابع البيوريتاني ) الذي عرفه الشعر الأوروبي , في مراحله الوسيطة , وهي سمة مدارها احتضان الطبيعة , في مشاهدها الطازجة , والتقافز الخلاق بين عناصرها المتراكبة الثرية :
( أحلم بالفراشات.. أجوب الحقول و على صفحة الدهر أحدث بنعم القضاء و نعم القدر ..)
و يمكن بالاستبصار النقدي المستأني , أن نلحظ _ في سمة فنية ثالثة _ الحرص , في الأعم , على تذييل المقطع الشعري ’ بخاتمة غير متوقعة , من شأنها أن ( تكسر أفق التوقع ) , كما يقول الناقد الألماني : ( هانز روبرت ياوس ) , و هي سمة كفيلة بتنشيط الذهن و تهيئته لموجات المفارقات القادمة في أنوائها المكتسحة , و يتبدى هذا الملمح , مثالا لا حصرا , في هذا التذييل المشع الموحي :
( ..في المهد مات الفرح , عجبت من شباكك ! أغلب الظن أنك و الحواة توأم ! )
و في المستويات الأسلوبية الأبعد غورا , تحرص الذات الشاعرة على التجهيل الأسلوبي العمدي ل ( مرجع الضمير ) و ترسيخ الإطار التشويقي , أو في التبديات الأخرى للظاهرة الأسلوبية عينها , فرض أطر مموهة لهذا الإرجاع الضميري , بتضفيره _ بنيويا _ في نسق رمزي شامل , يدخل المشهد الشعري برمته في جدل الرمز و المرموز له . و هو ما يتبدى , بصورة نموذجية , في قصيدة :
( العمر الثاني )
و تعد قصيدة : ( بوح ) نموذجا دالا على مهارة الذات الشاعرة في تظليل المشهد الشعري و حواشي الصورة الشعرية بأطياف جزئية , شائقة لا تزيد الصورة جلاء , و إنما تضاعف , في إيحاءاتها المستدعاة , وقعها الشائق المثير في وجدان المتلقي , بما تنطوي عليه هذه الإيحاءات من
( غموض نافذ ) : ( أتوق للغمام , للإلهام , للروض و الظل ...)
و في قصيدة : ( حوار ) , تتكرس روح ( المنافاة البنيوية ) أو إطار المفارقة ( لعبة الديوان الجذرية الأثيرة ) , أعني المفارقة بين ( العنوان ) و ( المتن ) الذي يخلو تقريبا من الحواريات , لنكتشف أن الذات الشاعرة وعدت ب ( ديالوج ) , لتخاتلنا _ فعليا _ ب ( مونولوج ) يمد أطرافه و يشدها بإحكام !
و تنعكس اللعبة بذات الروح المناور المهاتر , في قصيدة : ( رحيق ) حيث تهيئنا لاستمرارية ( المونولوج ) , فإذا بالسياق الشعري يقلب الطاولة ليبدهنا ب ( ديالوج ) . أحكمت الذات الشاعرة إطاره البنيوي , على غير توقع ! وفي مناورات الذات الشاعرة , باندياحاتها الواسعة الرحيبة , يتغلغل الخيط الرومانتيكي الذي صبغ خلايا النص جميعها _ بدءا و انتهاء _ فتألقت , في بعض المقاطع أنفاس.
( الهمشري ) و ( إبراهيم ناجي ) , و قد تتواشج بعض المقاطع مع تباريح ( وردزورث ) بحسها الحالم المستوفز . و في هذه التباريح الشاجية , لا تحلم الذات الشاعرة , في إهابها الرومانتيكي المخملي , بأكثر مما تسميه : ( ..أقصوصة تحت الوسادة ..) كما جهرت في قصيدة : ( زيارة ) .
و لم تخل فضاءات التجربة الشعرية الدالة من جنوح ملحوظ , إلى تمكين النفس الصوفي و ترسيخ قوائمه المستحكمة الرهيفة , لتتحول القصيدة _ بالتصعيد الصوفي _ إلى فيض من المكابدات و المواجيد الملتاعة التي ترف دون حدود سابحة مع ( أشواق ) ( ابن عربي ) و ( فتوحاته ) , أو متعانقة مع مواجيد ( الصوفية الباكية ) : ( مارجري كيمب ) , و هو ما يتألق بنصوع في قصيدة :
( في خلوتي ) :
( في خلوتي صافحت مراكب النور حين بدد القلق ،
أيتها العصافير الآن ربحت النور و الشمس و الظلال )
و مع هذا التصعيد الصوفي المجنح , تتدرع القصيدة , فيما يشبه التناص , ب نفس ( قداسي )
دال لا تخطئه العين , و هو نفس يهيب _ في تواشجاته التناصية المتعددة _ بالنص الديني , بأبعاده المستدعاة , لتصبح القصيدة ( مزمورا ) سابحا يشيع الفضيلة و يمتطي ثبج الحلم الروحي الكبير في معارجه المتسامية التي لا تكف عن الصعود : ( ..سأبعث الأشعار فيه مزامير من ألحانه ..)
و قد تشق فضاءات الحوارية الممتدة بين العاشقين / المتحاورين , رقعة متاحة تترخص بظهور
( أطراف ثالثة ) , بما يفتح ثلمة في النص تسمح ببروز السمة ( البوليفونية ) , بتصادي أصواتها المتداخلة و ترجيعاتها المزدحمة الدالة , و يتمثل ذلك _ مثالا لا حصرا _ في ( النوارس المتحاورة ) في قصيدة : ( أمل ) , و هي النوارس التي التحمت بالحوار الأصلي , و أضافت إلى دلالاته ضمائم ذات مغزى :
( قالت النوارس : غدا في الأيك يتهادى الحبيب , يا مطلع الشمس البديع و السرور و الترنيم ) .
ومن جديد تتأكد السمة الحوارية المصقولة في قصيدة : ( حوار الطيور ) حيث تستدعي أجواء القصيدة رمزيات ( ابن المقفع ) و حوارياته الرمزية التي جسد بها عوالم العجماوات و الكائنات الحيوانية في صراعاتها الدالة المتشابكة , أو حتى لوحات ( لافونتين ) الطازجة التي مضت تغذ السير على الدرب ذاته .
و في قصيدة الختام : ( شكرا ) يتأكد , بجلاء ساطع , الروح النسوي الذي يتمرد منتفضا على القيد الذكوري المهيمن يختط _ من ثم _ فضاءاته باستقلالية و تحد لا يتوقف عن النضال :
( شكرا لمن علمني أن ارفض أو أن أغضب أو أن يعبث غرّ بحناني ..)
و تبقى الخلاصات المصفاة للرسالة الفنية للديوان مراوحة بين ( أحلام الأولمب ) بتحليقها الجانح و( الواقع الكالح ) بتضاريسه المعتمة وأزماته الاجتماعية والوجودية , ومع هذه الحركة الراقصة للذات الشاعرة في مساحة المنتصف , تتأكد محنة الإنسان المصري الجديد , بمثل ما تترسخ معالم الوجهة الجديدة لقصيدته , في حراكها السرمدي نحو اكتشاف ذاتها , و تقصي محيطها الإنساني الجديد".
إنتهت المقدمة التى تدفقت فيها المعانى كأنها البحر أو المحيط. وقد إضطرتنى هذه المقدمة أن أقف عندها بسبب المساحة، وأن أستكمل فى حلقة أخرى بقية صورة الأمسية الجميلة وما دار فيها ، لعلها تصل الى مسامع طلبة أقسام اللغة العربية فى جامعاتنا المختلفة، فينهلون من الديوان والمقدمة. والله الموفق