جمهورية المتاهة
الأحد، 17 أبريل 2016 04:15 م
أخشى أن يكون الأوان تأخر على الإصلاح الجذرى للنظام المصرى ، فقد طالبنا الرئيس السيسى من أول يوم بما أسميناه "مذبحة مماليك" ، وذكرنا بما فعله محمد على فى بداية عهد النهوض الأول للدولة الحديثة ، وبما فعله جمال عبد الناصر فى أزمة مارس 1954، وقلنا أن الوضع الآن أخطر ، وأن الرئيس استلم دولة تحولت إلى خرائب مملوكية ، وأن الخطوة الأولى فى إعادة بناء الدولة هى إنهاء الوضع المملوكى ، لكن الرئيس فضل التريث ، وانتهى إلى التردد ، وإلى خطوات للأمام مصحوبة بخطوات للخلف ، وهو ما جعلنا فى زمن "جمهورية المتاهة" ، وازدحام جدول حياتنا اليومية بمتناقضات لاتنتهى.
وأصل القصة فى التناقض المرئى الملموس ، فقد جاء رئيس جديد ليحكم بالنظام القديم نفسه ، رئيس لايشك أحد فى إخلاصه ووطنيته ونزاهته وعزمه على النهوض بالبلد ، ونظام لا دين له ولا وطن غير الفساد وتدنى الكفاءة ، واعتياد الكذب على الناس ، ودهس كرامات المواطنينن، واظهار الطاعة الصورية للرئيس الجديد ، وإضمار التآمر المنهجى عليه ، وكما دلت عليه ألف حادثة وحادثة فى السياسة والاقتصاد والأمن ، لن تكون آخرها قضية تعذيب وقتل الطالب الإيطالى جوليو ريجينى ، والتى جرى افتعال الغموض فيها، وتقديم روايات ثبت أن كلها مكذوبة مفبركة ، وفى سيناريو لاينتهى سوى لنسف علاقات مصر النامية مع إيطاليا ، وهى واحدة من أفضل منجزات الرئيس فى العلاقات الدولية ، وارتبطت بها اكتشافات كبرى لحقول الغاز المصرية فى البحر المتوسط ، تعمل شركة "إينى" الإيطالية على تنميتها وتطويرها وإعدادها للإنتاج .
وقد نحب أن نذكركم ، والذكرى تنفع المؤمنين ، أن قضية مقتل المناضلة اليسارية شيماء الصباغ لم تنفك ألغازها إلا بعد تدخل الرئيس ، كان وزير الداخلية وقتها هو اللواء محمد إبراهيم ، وأنكرت الوزارة ـ مرارا وتكرارا ـ حمل أى ضابط لسلاح الخرطوش ، بل واتهمت الدكتور زهدى الشامى ـ 77 سنة ـ بقتل شيماء ، والرجل مصاب بداء القلب ، فوق كونه قياديا بالحزب الذى كانت تنتمى إليه الشهيدة ، ولا يعقل أن يؤذى زميلته الشابة ، التى خرج معها فى مسيرة رمزية إلى ميدان التحرير فى الذكرى الرابعة لثورة يناير ، وكانت الكذبة فوق ما يحتمل ضمير أى عاقل أو حتى أبله ، ولم تظهر الحقيقة إلا حين أظهر الرئيس العين الحمراء ، ووصف شيماء بأنها مثل إبنته ، وأنه مصمم على القصاص لدمها ، وأمر الرئيس من على منصة مسرح الجلاء وزير الداخلية وقتها بالنهوض واقفا ، وطلب منه تعهدا صريحا بتسليم القاتل حتى لو كان ضابطا ، وهو ما تم بعدها بساعات ، وبدأت محاكمة الضابط ، والذى تبين أنه كان مسلحا على عكس الادعاءات الأولى لوزارة الداخلية، ووصلت الدراما ذروتها بقرار الرئيس بعدها بإقالة اللواء محمد إبراهيم .
والقصة أكبر من مجرد إقالة وزير الداخلية ، وبتهمة الإخفاء أو التقصير الشنيع ، أو العجز الخلقى عن فك غموض حادثة بحجم مقتل جوليو ريجينى ، والتى تهدد بتدمير مصالح مصر العليا ، وتلويث سمعتها الدولية ، فقد جرت حوادث أفظع لمصريين لم يسأل عنهم أحد ، ولم يقدم ضباط تعذيب وقتل للمحاكمة إلا بعد تدخل الرئيس فى كل مرة ، وهو ما يشى بخلل جوهره التناقض الفادح ، فقد كانت وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة هى السلاح الرئيسى لحكم المخلوع مبارك ونجله ، وجرى تهميش دور الجيش والجهات السيادية والرقابية الأخرى ، وقد وجدت دوائر الداخلية القديمة فرصتها فى الحرب ضد الإرهاب ، وتعاطف الشعب الطبيعى الصادق مع شهداء يسقطون من رجال الشرطة، وكان التعاطف كفيلا بتعديل السلوك ، والابتعاد عن غواية دهس الناس ، لكن ما جرى كان مسيئا للرئيس السيسى بالذات ، فقد جرى تجاوز الضرورات المفهومة للحرب ضد جماعات الإرهاب ، وجرى توسيع دوائر الاشتباه بسبب العماء الأمنى الموروث ، واستسهال دفع الناس أفواجا بعد أفواج إلى غياهب السجون ، والتحرك بنوازع ثارات قديمة مع جماعات من الشباب الثورى ، كانت فى غالبها ضد حكم مبارك ثم حكم الإخوان ، وهو ما أدى لاكتظاظ السجون بمظالم لا نهاية لها ، اعترف بها الرئيس ، ووعد بإنهاء المظالم ، وإخلاء سبيل المظلومين ، وهو ما تم بعضه على دفعات محدودة الأعداد إلى الآن ، لكن الشوط لايزال طويلا ، والمطلوب إخلاء سبيل عشرات الآلاف وليس المئات ولا العشرات ، وفى لقاء للرئيس مرة مع رهط من شباب الإعلاميين ، كشف عن سر التباطؤ ، وقال أن أجهزة أمنية تحذر من التوسع فى قوائم الإفراج ، وأنها تخشى أن يكون المفرج عنهم سببا فى أعمال إرهابية جديدة ، مع أن الغالبية الساحقة منهم لم يتهموا أصلا فى عمل إرهابى من أى نوع ، ومع أن استمرار المظالم هو الذى يفضى إلى اليأس ونوازع الانتقام، ويخلق بيئة أكثر خصوبة لتنمية مخاطر الإرهاب ، وهو ما قد يلزم الرئيس بتصرف آخر ، لا يتوقف فيه كثيرا عند تقارير الأجهزة ، والتى تريد تضخيم أدوارها وامتيازاتها ، وعلى حساب شعبية الرئيس نفسه .
وليس الخلل والتناقض مقصورا بالطبع على قضية الأمن وأجهزته ، فثمة تناقض أفدح فى قضية الاقتصاد والتنمية ، فلا يكاد يعمل مع الرئيس بصدق وكفاءة سوى هيئات الجيش ، وكل إنجازات السيسى غير المنكورة تنتهى أطراف خيوطها إلى الجيش ، والذى يدير ويشرف على ورشة عمل غير مسبوقة فى تاريخ مصر ، يعمل بها ما قد يزيد على المليونين من المهندسين والفنيين والعمال المدنيين ، وفى بقعة ضوء باهر تبدو يتيمة ، يحيطها ظلام تقاعس وإهمال وفساد وانحطاط كفاءة الجهاز الإدارى للدولة ، وسيطرة التواطؤ والمحسوبية والعشوائية على وزارات الحكومة ، والرغبة فى صناعة مآزق للرئيس نفسه ، وعلى طريقة "القرارات الصعبة" التى يشربها أونفر رئيس الوزراء ، والتى تحمل الفقراء والطبقات الوسطى عبء سد عجز الموازنة ، وتسعى لإشعال غضب غالبية المصريين ضد الرئيس .
وقد نتصور أن يفعل الرئيس شيئا هو قادر عليه ، وقبل أن يفوت الأوان بلا عودة .