المصريون شعب "مرتشي" بطبعه

السبت، 20 فبراير 2016 03:51 م
المصريون شعب "مرتشي" بطبعه
عبد الفتاح علي

تنفرد مصر عن كثير من بلاد الدنيا بمشاكل لا حصر لها، وبأزمات لا آخر لها، وبكوارث لا مثيل لها.
هي حالة فريدة من نوعها، خلطة غريبة ومريبة وعجيبة، تحمل في طياتها كل أنواع السموم التي تقهر أي إبداع، وفي قلب السم يظهر بصيص الأمل، وفي قلب القهر والظلم والفقر، تخرج نكتة تهز وجدانك من الضحك، تنهي بها يومك الكئيب المنحوس الذي عصر بقايا من جدعنة تراكمت دون أن تدري في شريان المحبة الذي الذي ظننت أنه ضمر.
لا القانون في مصر يمنح الأمان، ولا النظام في مصر له ملامح، هي بلاد "البركة" مجسدة في 90 مليون شخص، قليل جدا من يعلم نهاية يومه في بدايته، وأغلبية كاسحة، رزقها وحياتها وصحتها وتعليمها على الله، بالمنطق الشعبي "الللَاوية".
وتضحك بشدة عندما تسمع وصفا للمصريين بأنهم شعب متدين بطبعه، لكن في الحقيقة إن المصريين شعب مرتشي بطبع، مرتشي بالسليقة، مرتشي بالفهلوة، ولا راد لرشوته، ولا سلطان عليه سوى الرشوة، ولايخضع لشئ مثل خضوعه للرشوة.
في القانون مادة مدهشة لمعاقبة مرتكب جريمة الرشوة، وضعها من كان يعتقد أن تشديد العقوبة هي السبيل الوحيد لحماية المال العام، فوضع المشرع عقوبة تصل إلى السجن المؤبد وغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد عن مبلغ الرشوة ومصادرة الرشوة.
وبخلاف واقعة الرشوة، وإمعانا في عكس الكراهية التي كان يكنها من وضع هذا القانون، لتلك الجريمة، جرم كل الطرق التي تؤديالى الرشوة، وكل المنافذ التي من الممكن ان تتسرب منها الرشوة، وحاصر عملية استغلال الوظيفة العامة لمنع تحقيق مكاسب من وراءها، مثل تجريم عرض الرشوة، وتجريم الإخلال بواجبات الوظيفة، وتجريم قبول المكافئة اللاحقة، وتجريم التوسّط في أخذ العطية أو الفائدة، وتجريم التوسّط في الرشوة، وتجريم استغلال النفوذ.
يعني لم يترك المشرع "الطيب" أي ثغرة ممكن أن ينفذ منها الموظف معدوم الضمير، وقفلها – في اعتقاده- ضبة ومفتاح حتى يقضي تماما على أي صورة من صور استغلال الوظيفة العامة.
فهل انتهت الرشوة في مصر؟ بالعكس، زادت، واستفحلت.
لأنه وببساطة هناك تصالح كامل وتام وضمير غاية في الأريحية، في التعامل مع الرشوة، بداية من الجهاز القضائي، فأنت لا تسطيع أن تلقي التحية على كثير من الموظفين في أي محكمة دون أن تخرج ورقة بخمسين جنيه حتى يرد عليك السلام.
من الذي يتعامل مع هذه الرشوة، رجال القانون من المحاميين، ومن الذي يرأس هؤلاء الموظفين، رجال القانون من القضاة، ومن الذي مفترض أن يقبض على هؤلاء ولكنه لا يفعل، رجال القانون من الشرطة.
هل حوسب أحد يملك سلطة في أي محكمة في مصر على انتشار الإكراميات و"الشاي" و"الاصطبحة"؟ بالطبع لا.
هل وقفت نقابة المحامين وقفة رجل واحد، وطالبت بمنع الرشاوي في المكاتب الإدارية في المحاكم؟ بالطبع لا.
هل قررت وزارة الداخلية أن تسأل أمناءها وضباطها وأفرادها من أين لك هذا؟ هل راقبت مستويات إنفاقهم، وأصول أملاكهم وأملاك زوجاتهم وأبناءهم وأقرباءهم؟ بالطبع لا.
فإذا كان رجال القانون (ضاربين عوافي) على الرشوة الغارقين في وحلها، فهل وقف رجال الدين في خندق الدفاع عن المال العام بفردهم؟ بالطبع لا
بداية من الكتاتيب، من يمنح الشيخ هدايا أكثر يحفظ إبنه أجزاء أكثر من القرآن الكريم، ومن يريد أن يتم تعيينه في مسجد يدفع، ومن يريد ترقية أسرع يمنح العطايا ويسهل أمور رئيسه الشيخ الجليل.
حياتنا كلها رشوة، في التعليم يحصل المعلم على رشوة في صورة درس خصوصي، ويحصل الطبيب على رشوة في صورة كشف العيادة الخاصة، ويحصل المهندس على رشوة في صورة تخفيض على ثمن وحدة سكنية يزيد على 90% من ثمنها، ويحصل الصحفي على رشوة في صورة إعلان، ويحصل الوزير على رشوة في صورة تذكرة حج، ويحصل المسئول الكبير على رشوة في صورة وظيفة لإبنه في شركة خاصة.
فماذا فعل القانون المشدد الذي يعاقب جريمة الرشوة بأشد من جريمة القتل؟
المسألة ليست في تشديد العقوبة، المسألة في ثقافة التصالح الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي مع الجريمة، المرتشي يتصالح مع قبول الرشوة بمنطق "كل الناس بتعمل كدا"، وإذا كان ضميره ما زالا حيا، فيوهم نفسه بأن الحكومة تسرقه في فواتير الكهرباء والماء والغاز ولا توفر له تعليم لإبنه أو علاج لزوجته أو مواصلات محترمة لنفسه، وبالتالي فهو يأخذ حقه بطريقته.
المسئول الكبير الذي يعلم القاصي والداني أنه مرتشي كبير، يعامله الناس على أنه فلان بيه، وتنحني أمامه الرؤوس، وتفتح له الأبواب، وتستضيفه الفضائيات، فهو يجالس كبار رجال الأعمال ملاك الفضائيات، ويمرر لهم مصالحهم، ويزيد من أرباحهم، مقابل قيامه بتسهيل اجراءات الاستثمار.
وهنا يكون رضا المسئول الأكبر عليه بلا حدود، فليس هناك رجل أعمال واحد يشتكي منه، بينما من يطالب بحق الدولة، ولا يتنازل عن كل مليم يخص الشعب، تقام ضده الدعاوي، وتحرر له المحاضر، وتشن عليه حملة شعواء، باعتباره معطل ومطفش للمستثمرين (اللصوص)، فيغضب المسئول الأكبر منه، فيمنحه "شلوت" لفوق، يرقيه أو ينقله لوظيفة أفضل لا يتعامل فيها مع كبار الحرامية، فيسعد الجميع.
البعض فكر في أن تتعامل الدولة مع الرشوة بالاشتباه، وترفع العقوبة للإعدام، وأن يجري الإعدام في أقسام الشرطة، دون محاكمات، فهل هذه طريقة -بغض النظر عن آدميتها المنعدمة- تصلح للقضاء على الرشوة؟ بالطبع لا، هي فقط ستضاعف قيمة الرشوة، لأن الداء معلوم والدواء معلوم، لكن ليست هناك رغبة في إيصال جرعة الدواء للمريض، واقناعه بتجرعه.
مهما أنشأنا من أجهزة، وأحسنا اختيار ضباط الرقابة الإدارية، ورجال الأموال العامة، والتفتيش المالي، ورفعنا مرتبات موظفي جهاز المحاسبات، لن نصل إلى شئ، لأن الثقافة العامة ترحب بالرشوة، وتحتضن الفساد والمفسدين، بل وتمنحهم الحصانة، وتجعلهم القائمين على أمور الناس.
هل فكر رئيس الحكومة الكسيحة، أن يشن حملة حقيقة على الرشوة في المناطق التي تعتبر الموطن الأصلي لها، أم أن رئيس الحكومة يخشى من غضب وزراؤه الذين لا سلطان له عليهم.
هل فكر رئيس الحكومة الفاشلة، أن يتبنى مثلا قضية القضاء على فساد المرور، ويعتبرها مشروعه القومي، ويركز جهده في القضاء على هذا الموطن الولاد باللصوص والمرتشين والأفاقين والهليبة، هل فكر مثلا بأن يهتم بالتجربة التي أقيمت في وحدة مرور حدائق الأهرام، ويعممها على مستوى الجمهورية.
هل فكر رئيس الحكومة الهزيلة، أن يحول التعامل الورقي مع موظفي المحاكم إلى إلكتروني، فيوقف نزيف الرشاوى، وتعطيل المصالح، والتلاعب في الملفات.
هلى خطر في بال رئيس الحكومة الضعيفة، أن يحاسب رؤساء الشركات التابعة له بالربحية الحقيقية، أم أنه ما زال يتعامل معها مثل سابقيه على أنها مناصب مكافأة نهاية خدمة، أو مخازن اسيتداع قبل الاستدعاء.
أم الحل أن نقنن الرشوة، لتحصل الدولة على ضرائب عليها، ونضع لها نظاما يخضع لنظرية المنافسة، بأن نجعل الموظف الأكثر حصولا على رشوة هو رئيس المصلحة أو الادارة، ويكون من حقه اقتسام الغنيمة علنا مع بقية الموظفين المرتشين، فتحقق المنافسة ما لم نستطع بالقانون أن نصل إليه، بأن يتنافس المرتشين على خدمة المواطنين، وتهيئة المناخ لهم أثناء قضاء مصالحهم.
وقتها ستتخلص الحكومة والبرلمان من نوعية الصحفيين المملين أصحاب القلوب السوداء الذين يهاجمون رئيسها وأعضائها ليل نهار، ويطالبونهم بالقضاء على الرشوة وكل أنواع الفساد.





 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق