«خلفية»: ارتباك المشهد ضرورة تفرضها التنمية السياسية في الخليج
الثلاثاء، 23 فبراير 2016 01:10 ص
في خضم تلاطم التطورات والأحداث التي تعج بها منطقة الشرق الأوسط، بدءًا من ضبابية الموقف في الأزمة السورية بعد التقارب الأمريكي الروسي في تفهم طبيعة المشهد، ومرورًا بصعوبة حسم ملف الأزمة اليمنية بعد تعقيداتها العربية والخليجية والدولية، وانتهاءً بالأزمة الليبية واحتمالات التدخل العسكري الغربي مرة أخرى بعد استفحال حدة التنظيمات المتطرفة هناك، باتت منطقة الخليج بين مطرقة تحقيق معضلة الأمن وسندان الحفاظ على مستويات متقدمة من التنمية.
وعلى خلفية التشابك ما بين الإقليمي والدولي والداخلي بعد أن أصبح العالم عبارة عن قرية كونية، بات من الضروري البحث عن البديل المناسب نظريًا وواقعيًا للأمن والتنمية في الخليج.
وفي هذا السياق يمكن طرح أو اقتراح نموذج "الأمن المنسق" وهو عبارة عن شكل خاص للأمن يُعرف (بالأمن المنسق) تُجرى صياغته في "حدود دنيا"، كي يكون قادرًا على الانسجام مع الواقع المعقد للنظام الإقليمي الخليجي، سياسيًا وأمنيًا، وليحقق "الممكن" على أرض الواقع القائم، ويمكن وضعه في إطار جيوسياسي، يمتد ليشمل ـ إضافة للدول الخليجية الثماني ـ دولتين مجاورتين في بحر العرب، هما الهند وباكستان.
هذا المقترح أو التصور يأخذ في اعتباره - على نحو وثيق - الخصوصيات الجيوسياسية والسياسية والتاريخية للإقليم وطبيعة التحديات التي تمنح أو تعترض فرص التعاون فيه.
وثمة مبررات لإضافة هاتين الدولتين، الواقعتين خارج إقليم الخليج العربي، إلى نظام الأمن المنسق المقترح، ومن أبرز المبررات، اعتبارات الترابط الجيوسياسي بين الخليج وجنوب آسيا، وهو ترابط يزداد اليوم حساسية وخطورة. وتؤكد الدراسات الجيوستراتيجية أن منطقة جنوب آسيا تعتبر منطقة ملاصقة للخليج العربي، وهما يشكلان معًا الذراع الشمالي للمحيط الهندي، ويترابطان على نحو وثيق.
على صعيد العلاقات بين الهند ومنطقة الخليج، فهي قديمة قدم الزمن، وتبدو أهمية الهند في معادلة الأمن الخليجي بالنظر إلى الملفات الاقتصادية بين الجانبين والتي تتركز بشكل أساسي في التبادل التجاري، وخاصة النفط، والاستثمارات المشتركة، والعمالة الهندية في الخليج.
بيد أن الأمر الأكثر تجليًا بالمعايير الإستراتيجية، هو أن بيئة الأمن النووي في جنوب آسيا تضع أمن الخليج أمام تحدٍ كبير؛ فهذه البيئة لا تعكس نفسها فقط على الأمن الخليجي، بل إن صياغة هذا الأمن تستوجب بالضرورة مقاربة حالة الأمن النووي هناك.
وفي أحد مدلولاته، فإن دخول الهند وباكستان في نظام للأمن في الخليج، يمثل إسهامًا خليجيًا في تليين مناخ العلاقات الهندية الباكستانية، التي يعني استقرارها حماية لأمن الخليج ذاته.
وبمعيار التوصيف الجيوسياسي، تعتبر باكستان دولة جوار لإحدى دول النظام الإقليمي الخليجي وهي إيران، بل إن جزءًا من إقليم بلوشستان يقع في الأراضي الباكستانية، بينما يقع الجزء الآخر في الأراضي الإيرانية، مع وجود جزء صغير في أفغانستان، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، فصل حالة الأمن في مضيق هرمز عن الظروف السائدة في بلوشستان.
وبصفة عامة هناك ترابط على مستوى الممرات البحرية الدولية بين الخليج وبحر العرب، حيث تقع كل من صلالة العمانية وكراتشي الباكستانية وبومباي الهندية على الامتداد نفسه، كما أن جنوب آسيا منطقة ملاصقة للجزيرة العربية وبحر العرب، فهي معنية بأمن الممرات الحيوية للمنطقة، كما تمثل منطقة جنوب آسيا نقطة التقاء بين الخليج وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وبالتالي تمر عبر جنوب آسيا الكثير من السلع والخامات الحيوية المتحركة بين المنطقة والشرق الأقصى، كما أن حالة الأمن في الجنوب الآسيوي تعكس نفسها بالضرورة على أمن الممرات الدولية المعنية بالتجارة والنفط الخليجي، وأي اضطراب في هذه الحالة من شأنه أن يعكس نفسه على شكل أضرار مباشرة على تجارة الخليج الدولية.
خيارات الأمن المنسق
إن نظام الأمن المنسق يتسع لمجموعة واسعة من الخيارات، يشير حدها الأدنى إلى تنسيق دول الإقليم لسياساتها الخاصة بالتعامل مع عدد من الأخطار والتهديدات المشتركة، بدءًا من الجريمة المنظمة وأمن الحدود، وصولًا إلى الأزمات المستوطنة، التي قد تفجر نزاعات مسلحة. وهذا الحد الأدنى هو الممكن الخليجي من هذا النظام الأمني.
واقع الأمر أن هذا النظام الأمني - في حده الأدنى - يمكن إنجازه مبدئيًا عبر أربع مراحل، في المرحلة الأولى: تُجرَى عملية تشخيص النزاعات والأزمات والتهديدات الأكثر تأثيرًا على الأمن الإقليمي، ويتم بعد ذلك وضع معايير لقياس درجة خطورة كل منها.
وفي المرحلة الثانية: يجري العمل على بلورة خيارات للتعامل برؤية موحدة مع الأخطار المشتركة، ذات الطبيعة غير السياسية أو العسكرية، مثل الجريمة المنظمة والتهريب، وأمن الحدود. ويمكن أن يكون التعامل مع هذه التحديات بصورة أحادية أو ثنائية أو متعددة.
أما في المرحلة الثالثة: يجري الانتقال لبحث قضايا الأمن الملاحي، والممرات البحرية الإستراتيجية والخروج بتصورات مشتركة حول سبل التعامل معها، أحاديًا أو ثنائيًا أو على نحو تعددي.
وفي المرحلة الرابعة والأخيرة: يجري العمل على بلورة مقترحات للحل، أو تجميد النزاعات والأزمات ذات المنشأ التاريخي ووضع رؤية مشتركة بشأنها. وفي حال تعذر ذلك، يجري تشكيل فرق متابعة، تكون مهمتها الاستمرار في البحث عن مزيد من التصورات، وتقريب وجهات النظر المختلفة، ووضع مقاربات سياسية وقانونية دافعة بهذا الاتجاه. وفي غضون ذلك، يجري التأكيد على الالتزام بمبادئ حسن الجوار، والقانون الدولي، وعدم اللجوء للقوة، أو التحريض عليها.
إن فلسفة نظام الأمن المنسق في حده الأدنى، لا ترتبط بالخيارات الدفاعية والأمنية المعتَمَدة على الصُّعد الوطنية من قِبَل الدول الداخلة في هذا النظام. كما أن هذه الفلسفة ليست ذات صلة بنمط الخيارات والتحالفات الخارجية للدول المعنية. وهي لا تشير إلى قيام هياكل ومؤسسات أمنية، إقليمية النطاق.
ولا شك أن القوى المؤسسة والمشكلة للنظام الأمني والتنموي المقترح تؤدي إلى إثراء تجربة التنمية المستدامة، وذلك من خلال تكثيف أواصر التعاون بين الخليج وكل من الهند وباكستان، وثمة مجالًا خصبًا لتوثيق التعاون بين (الهند وباكستان) ودول مجلس التعاون الخليجي من أجل حماية المصالح الجيواستراتيجية بينهم، حيث يظل التعاون بينهم على المستوى التجاري والاقتصادي والاستثماري هو الأكثر والأكبر خلال المرحلة المقبلة في ظل استمرار التوجهات الخليجية نحو بناء الذات اقتصاديًا وبالتالي سياسيًا، واستمرار النزعة الهندية لأن تصبح أقوى الاقتصاديات في العالم منافسة بذلك الصين واليابان.
وتبقى متلازمة الأمن والتنمية، ليس فقط في دول الخليج، إنما في كل دول العالم، من القضايا الشائكة والمتداخلة التي تُرصد من أجلها الميزانيات وتُجرى من أجلها الدراسات، محل اهتمام مستمر ومتزايد، بعد أن باتت بيئة صنع القرار السياسي والاقتصادي والأمني يكتنفها الكثير من المتغيرات والتحديات المؤثرة في سلوك صانع القرار.