هل يجوز أن يتولى منصب المفتي «أخرس» أو «امرأة»؟

الإثنين، 12 أغسطس 2024 02:50 م
هل يجوز أن يتولى منصب المفتي «أخرس» أو «امرأة»؟
دار الإفتاء المصرية
منال القاضي

جاء تكليف الدكتور نظير عياد، بمنصب مفتي الديار المصرية، خلفا للدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية السابق بعد انتهاء مدته، ليطرح السؤال، حول الشروط الواجب توافرها في شخص المفتي، طبقا لقواعد مشيخة الأزهر.. ونستعرض في السطور التالية تلك الشروط وتعريف المفتي:
 
لا بد أن نعرف ما معنى الكلمة لغةً واصطلاحًا، وما هي شروط المفتي وآدابه حتى نتصور ماهية المفتي تصورًا صحيحًا.
 
فالمفتي لغة: اسم فاعل من أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتى.
 
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. 
 
والمفتي في الاصطلاح الشرعي: هو من قام للناس بأمر دينهم، وعَلِمَ جمل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي فيه. ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها، وكان عالما بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل، فمتى أحاط علمًا بمسألة ما وجمع أدلتها، وكان على علم بطريقة الاجتهاد وتقرير الأدلة وطرق استنباط الأحكام منها جاز له الإفتاء في تلك المسألة.

أولا.. شروط المفتي:

هناك شروط سلبية لا يجب توافرها، والشروط السلبية كثيرة، ونعلم أنه ليس من المنطقي أن يقال من الشروط (لا يشترط كذا) فعدم توافر الشروط السلبية لا يحتاج أن ينص عليها عادة، ولكن نذكر تلك الشروط خاصة لأننا في عصر اشتبه على الناس كثير من الأمور، مما ألزمنا التنبيه عليها، فمن هذه الشروط السلبية:
 
لا يشترط في المفتي الذكورية إجماعًا، فتصح فتيا المرأة.
 
لا يشترط في المفتي الحرية، فتصح فتيا العبد.
 
لا يشترط النطق اتفاقًا، فتصح فتيا الأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة.
 
لا يشترط البصر، اتفاقًا فتصح فتيا الأعمى، وصرح به المالكية.
 
أما السمع، فقد قال بعض الحنفية: إنه شرط فلا تصح فتيا الأصم وهو من لا يسمع أصلا، وقال ابن عابدين: لا شك أنه إذا كتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن يُنَصَّب للفتوى؛ لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له، ولم يذكر هذا الشرط غيرهم.

أما الشروط التي يجب توافرها في المفتي:

الإسلام:
 
فلا تصح فتيا غير المسلمين.

العقل:
 
فلا تصح فتيا المجنون.

البلوغ:
 
وهو أن يبلغ من يفتي الحُلمَ من الرجال، والمحيض من النساء، أو يبلغ خمسة عشر عامًا أيهما أقرب؛ لأنه لا تصح فتيا الصغير والصغيرة.
 
العلم:
 
الإفتاء بغير علم حرام؛ لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناس، وهو من الكبائر، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33]، فقرنه بالفواحش والبغي والشرك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسًا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» [أخرجه البخاري]. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه» (أخرجه الدارمي والبيهقي وصححه الحاكم).
 
التخصص:
 
ونعني به أن يكون من يتعرض للإفتاء قد درس الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسةً مستفيضةً، وله دربة في ممارسة المسائل وإلمام بالواقع المعيش، ويفضل في العصر الحالي أن يكون قد نال الدراسات العليا من جامعات معتمدة في ذلك التخصص، وإن كان هذا الشرط هو مقتضى شرط العلم والاجتهاد، فإن العلم بالفقه والاجتهاد فيه يقتضي التخصص، ولكن طريقة الوصول إلى هذه الدرجة تحتاج إلى ما ذكر، وإنما ذكرنا التخصص شرطًا منفصلا رغم اندراجه في شرط العلم والاجتهاد لحسم فوضى الفتاوى التي تثار هنا وهناك ممن لم يتخصص في علم الفقه والأصول، ويعترض ويناظر على فتاوى ما درس مبادئها الفقهية، ولا أصولها، ولقد تكلم في أهمية التخصص في الفقه العلماء القدامى. وقد وجدنا في عصرنا الحاضر أناسًا غير متخصصين تصدوا للإفتاء -رغبة في الشُّهْرَةِ أو المال أو غير ذلك- دون أن يستكملوا شروط الإفتاء، وهذا أمر فيه كثير من الخطورة، وقد قالوا قديما: من تصدَّر قبل أن يتعلم كمن تزبب قبل أن يتحصرم، أي: صيَّر نفسه زبيبًا، قبل أن يصل إلى حالة النضج.
 
العدالة:
 
العدالة: والعدل هو من ليس بفاسق وليس مخروم المروءة، وخرم المروءة تعني الخروج عن عادات الناس فيما ينكر ويستهجن، كأن يسير في الطريق حافيًا مثلا، أو غير ذلك من السلوكيات التي تستهجن في المجتمع، فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء. وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفرة أو مفسقة لم تصح فتاواهم، وإلا صحت فيما لا يدعون فيه إلى بدعهم، قال الخطيب البغدادي: تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، وأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة.
 
الاجتهاد:
 
وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة، وليس المقصود هو أن يبذل العالم جهدًا ملاحظًا قبل كل فتوى، وإنما المقصود بلوغ مرتبة الاجتهاد، والتي قال الشافعي عنها فيما رواه عنه الخطيب: لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
 
جودة القريحة:
 
ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة، صحيح الاستنباط، وهذا يحتاج إلى حسن التصور للمسائل، وبقدر ما يستطيع المجتهد أن يتخيل المسائل بقدر ما يعلو اجتهاده، ويفوق أقرانه، فهو يشبه ما يعرف في دراسات علم النفس بالتصور المبدع، وهو علم ينبغي أن يضاف في أسسه إلى أصول الفقه، حيث إنه وسيلة للاجتهاد خاصة في عصرنا الحاضر، ولذلك كله لا تصلح فتيا الغبي، ولا من كثر غلطه، بل يجب أن يكون بطبعه قوي الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن، صادق الحكم، قال النووي: شرط المفتي كونه فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح النظر والاستنباط.

الفطانة والتيقظ:
 
يشترط في المفتي أن يكون فطنًا متيقظًا ومنتبهًا بعيدًا عن الغفلة، بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فَطِنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم.
 
هذه جملة من الشروط التي ينبغي أن تتوافر في المفتي، وهناك خصال أخرى ينبغي أن يتحلى بها المفتي، وهذه الخصال تسمى آدابًا، وفيما يلي نعرض لها.
 
ثانيًا: آداب المفتي:
 
 ينبغي أن يتحلَّى الْمُفتي بكثير من الآداب، ولأن تلك الآداب غير محصورة نذكر جملة منها بالنَّقل عن الأئمة والعلماء:
 
فمن ذلك ما نبه عليه الإمام أحمد من أمور، فقال: «لا ينبغي للرجل أن يُنصِّبَ نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم، وحلم، ووقار، وسكينة. الثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس».
 
ولا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله.
 
كما ينبغي عليه أن يحسن زيه، مع التقيد بالأحكام الشرعية في ذلك، فيراعي الطهارة والنظافة، واجتناب الحرير والذهب والثياب التي فيها شيء من شعارات الكفار، ولو لبس من الثياب العالية لكان أدعى لقبول قوله؛ ولأن تأثير المظهر في عامة الناس لا ينكر، وهو في هذا الحكم كالقاضي.
 
كما ينبغي عليه أن يحسن سيرته، بتحرِّي موافقة الشريعة في أفعاله وأقواله؛ لأنه قدوة للناس في ما يقول ويفعل، فيحصل بفعله قدر عظيم من البيان؛ لأن الأنظار إليه مصروفة، والنفوس على الاقتداء بهديه موقوفة.
 
كما ينبغي عليه كذلك أن يصلح سريرته ويستحضر عند الإفتاء النية الصالحة من قصد الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الشرع، وإحياء العمل بالكتاب والسنة، وإصلاح أحوال الناس بذلك، ويستعين بالله على ذلك، ويسأله التوفيق والتسديد، وعليه مدافعة النيات الخبيثة من قصد العلو في الأرض والإعجاب بما يقول، وخاصة حيث يخطئ غيره ويصيب هو، وقد ورد عن سحنون: فتنة الجواب بالصواب أعظم من فتنة المال.
 
وعليه أن يكون عاملا بما يفتي به من الخير، منتهيًا عما ينهى عنه من المحرمات والمكروهات، ليتطابق قوله وفعله، فيكون فعله مُصدقًا لقوله مؤيدًا له، فإن كان بضد ذلك كان فعله مُكذبًا لقوله، وصادًّا للمستفتي عن قبوله والامتثال له، لما في الطبائع البشرية من التأثر بالأفعال، ولا يعني ذلك أنه ليس له الإفتاء في تلك الحال، إذ ما من أحدٍ إلا وله زلة، كما هو مقرر عند العلماء أنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرًا منتهيًا، وهذا ما لم تكن مخالفته مسقطة لعدالته، فلا تصح فتياه حينئذ.
 
كما يراعي أن لا يفتي حال انشغال قلبه بشدة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغير خلق، أو كان في حال نُعاسٍ، أو مرض شديد، أو حَرٍّ مُزعجٍ، أو بردٍ مؤلمٍ، أو مدافعة الأخبثين ونحو ذلك من الحاجات التي تمنع صحة الفكر واستقامة الحكم؛ لأن الفتوى تبليغ حكم شرعي، فهو كالحكم بين الناس، فيستمع لنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: «لا يقضين حَكمٌ بين اثنين وهو غضبان»[أخرجه البخاري]، فإن حصل له شيء من ذلك وجب عليه أن يتوقف عن الإفتاء حتى يزول ما به ويرجع إلى حال الاعتدال.
 
فإن أفتى في حال انشغال القلب بشيء من ذلك في بعض الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب صحت فتياه وإن كان مخاطرًا لكن قيده المالكية بكون ذلك لم يخرجه عن أصل الفكر. فإن أخرجه الدهش عن أصل الفكر لم تصح فتياه قطعًا وإن وافقت الصواب.
 
وإن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب تساميًا بنفسه عن المشاورة، وعلى هذا كان الخلفاء الراشدون، وخاصة عمر رضي الله عنه، فالمنقول من مشاورته لسائر الصحابة أكثر من أن يحصر، ويرجى بالمشاورة أن يظهر له ما قد يخفى عليه، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السر فإن المفتي كالطبيب يطلع من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيره، وقد يضر بهم إفشاؤها أو يعرضهم للأذى فعليه كتمان أسرار المستفتين، ولئلا يحول إفشاؤه لها بين المستفتي وبين البوح بصوره الواقعة إذا عرف أن سره ليس في مأمن.
 
كما ينبغي للمفتي مراعاة أحوال المستفتي، ولذلك وجوه، منها:
 
أ - إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي الترفق به والصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه.
 
ب - إذا كان بحاجة إلى تفهيمه أمورًا شرعية لم يتطرق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادة على جواب سؤاله، نصحًا وإرشادًا، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»[أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم]، وللمفتي أن يعدل عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:215]. فقد سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوا عنه.
 
ج - أن يسأله المستفتي عما هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدله على ما هو عوض منه، كالطبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضره ودله على أغذية تنفعه.
 
د - أن يسأل عمَّا لم يقع، وتكون المسألة اجتهادية، فيترك الجواب إشعارًا للمستفتي بأنه ينبغي له السؤال عما يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كانوا يسألون إلا عمَّا ينفعهم، وقال ابن عباس لعكرمة: «اخرج يا عكرمة فأفت الناس، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك الناس».
 
وكذلك يترك الجواب وجوبًا إذا كان عقل السائل لا يحتمل الإجابة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟»[أخرجه البخاري]، وقال ابن مسعود: «ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[أخرجه مسلم].
 
ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، والتي قد تصل إلى الشروط في أيامنا هذه، التيسير على الناس، وإدخالهم في دين الله، وإلقاء الستر عليهم، والعمل على جعل الناس متبعين لقول معتبر في الشرع، فذلك خير لهم من تركهم للدين بالكلية، وإيقاعهم في الفسق، مما يعد صدًّا عن سبيل الله من حيث لا يشعر العالم.
 
وعلى المفتي أن يكون حريصًا على الأخذ بما عليه الأئمة الأربعة لا يخرج عنهم جميعًا إلا في أضيق الحدود، كأن أتت نوازل مستحدثة نتيجة تغير العصر، أو احتاج الناس لتحقيق مصالحهم إلى غير مذاهب أولئك الأئمة الأعلام، فينتقل من فقههم إلى الدليل الشرعي مباشرة، أو إلى الفقه الإسلامي الرحيب بأئمته الذين تجاوزوا الثمانين مجتهدًا، ثم إلى فقه الصحابة الكرام الذين تصدروا للفقه، ونقل عنهم في أمثال مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والمغني لابن قدامة والمجموع للنووي ونحوها، كل ذلك مع الحرص على الاستئناس بما عليه المجامع الفقهية، كمجمع البحوث الإسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ونحوهما، وكذلك ما عليه الجماعة العلمية بالجامعات الشرعية في بلاد المسلمين، ويكون التخير في كل ذلك مبنيًّا على أن القول له دليل معتبر وأنه يحقق مصالح الناس ويرفع الحرج ويمكِّن لنشر صحيح الإسلام والدعوة إليه ويحبب الخلق في الخالق ولا يكون حجابًا بينهم وبين ربهم.
 
حقيقة عمل المفتي: 
 
 
لما كان الإفتاء هو الإخبار بالحكم الشرعي عن دليل، فإن ذلك يستلزم أمورًا: 
 
الأول:
 
تحصيل الحكم الشرعي المجرد في ذهن المفتي، فإن كان مما لا مشقة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهادًا، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي؟ أو عن حكم الإيمان بالقرآن؟ وإن كان الدليل خفيًّا، كما لو كان آية من القرآن غير واضحة الدلالة على المراد، أو حديثا نبويًّا واردًا بطريق الآحاد، أو غير واضح الدلالة على المراد، أو كان الحكم مما تعارضت فيه الأدلة أو لم يدخل تحت شيء من النصوص أصلا، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحة الدليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه. 
 
الثاني:
 
معرفة الواقعة المسؤول عنها، بأن يذكرها المستفتي في سؤاله، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطة تامة فيما يتعلق به الجواب، بأن يستفصل السائل عنها، ويسأل غيره إن لزم، وينظر في القرائن. 
 
الثالث:
 
أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها، بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعدادًا لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معينة خصوصية ليست في غيرها. وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولا هي طردية كلها، بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين، فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل؟ وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لا بد منه لكل قاض ومفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها عمومات ومطلقات، منزلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لا تقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وذلك كله اجتهاد.
 
ومثال هذا: أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه؟
 
فينظر أولا في الأدلة الواردة، فيعلم أن الحكم الشرعي أنه يجب على الابن الغني أن ينفق على أبيه الفقير، ويتعرف ثانيًا حال كل من الأب والابن، ومقدار ما يملكه كل منهما، وما عليه من الدَّيْنِ، وما عنده من العيال، إلى غير ذلك مما يظن أن له في الحكم أثرًا، ثم ينظر في حال كل منهما ليحقق وجود مناط الحكم -وهو الغنى والفقر- فإن الغني والفقير اللذين علَّق بهما الشارع الحكم لكل منهما طرفان وواسطة، فالغني مثلا له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حد الغنى، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه، وهناك واسطة يتردد الناظر في دخولها أو خروجها، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة - فيجتهد المفتي في إدخال الصورة المسؤول عنها في الحكم أو إخراجها بناءً على ذلك.
 
وهذا النوع من الاجتهاد لا بد منه في كل واقعة -وهو المسمى تحقيق المناط- لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن فرضنا أنه تقدم مثلها فلا بد من النظر في تحقيق كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق