قدسية عربات الفول بين التريند ووقار «الزلباني»!

الأربعاء، 24 يوليو 2024 07:00 ص
قدسية عربات الفول بين التريند ووقار «الزلباني»!
محمد الشرقاوي يكتب:

سؤال كل يوم: هفطر إيه؟.. الأمر في القاهرة يجعلك بين خيارين، لا ثالث لهما: إما أن تنهزم أمام حصار عربات الفول، أو أن تمسك بشتات نفسك وتتماسك، وتبعد عن عدم نظافة بعضها، و"دماثة" فولها.
 
عربات الفول في القاهرة هي جزء من التاريخ لا أحد ينكره، تحمل عبقه، وعادة اعتادها الساكنين للعاصمة، كانت جميلة في كل شيء، حتى أفسد التريند بعضها، وغير التطور ملامحها، غير أن البعض ما زال يصارع أمام عبدة الصورة، ويتماسك أمام سيل محدثي النعمة.
 
هناك مشاهد لعربات الفول تحكي وحدها، الصحبة الفارغة التي تأخذ كل يوم صورة من أمام عربة الفول هي لا تأخذها للذكرى، ولكن لإضفاء حالة من الإحداث، وأننا نأكل على عربة فول مثل بقية العامة، وليس ليجمعهم قداسة "العيش والملح".
 
ومواكبة لهذا الإحداث، حاول بعض الباعة وأصحاب العربات اللعب في قداسة العربة، فأقحموا "الطعمية" عليها، وتطور الباذنجان من مخلل إلى مقلي، ومسقعة، وخلعت البطاطس ما تبقى من ردائها، وصارت العربات أشبه بمطاعم متنقلة، ومن هنا صارت قدسيتها على المحك.
 
قبل انتشار ثقافة التريند، وأنا أعني ذلك، فهي فترة نستطيع أن نؤرخ بها للتغير الثقافي في حياة عربة الفول، كانت هناك حالة من الوقار، الكل يأكل في صمت، ويرحل في صمت، لا تسمع لطلب فول حاير طاير بالزيت الحار واللي مش حار علشان البشوات.
 
ولا تسمع لطلب طعمية محشية، وطعمية مش محشية، ولا بطاطس جمبري، ولا "الزلبانية" -الزلباني هو اسم مرتبط في ذاكرتي بالعبثية وليس بائع لقمة القاضي قدس الله سره- هو طلب فول فقط، وإن أردت مداعبتك معدتك فطلب بيض إضافي.
 
أتذكر يومًا قبل نحو خمسة عشر عامًا، اصطحبني أحد أقاربي القاهريين إلى عربة فول بجوار القصر العيني، وكنت وقتها لا أعرف عن عربة الفول شيئًا، فإذ به يطلب الفول فقط، وكانت هنا صدمة ما زلت أتذكرها؛ فمعدتي لا تعرف غير فول وطعيمة الحاجة فاطمة، أو عم عبوده - فقط أهل قريتي الزعاترة يعرفون الإسمين- وأنهما مرتبطان سويًا، لا يمكن أن تأكل أحدهما دون الآخر.
 
تمضي الأيام وأنتقل للعيش في القاهرة، وتلازمنث عربة الفول، بل وصارت جزءً من تكويني، وذاكرتي، وذكرياتي، ولمة ولاد الأصول اللي صانوا العيش والملح، وذلك الطلب الذي كنت أتقاسمه أنا وصديقي يوميًا، ونطمع في رغيف إضافي فوق الثلاثة الثابتين، كبضع لقيمات يقمن صلبنا.
 
لم نأخذ صور لذلك، ولا ذلك اليوم الذي صارت فيه لدينا سعة من الرزق، فطلب كل واحد منا طلبًا منفردًا، ولا اليوم الأكثر سعة الذي طلب فيه كل منا طبق بيض إضافي.
 
كانت تمنعنا قدسية الطعام واحترامه، وقدسية عربة الفول، مع أن كل منا كان في عهدته كاميرا متطورة، لازمتنا أيام العمل الميداني كمحررين، وأيام الخوف، والمظاهرات والاشتباكات.
 
لكن حدثني عن ذلك الآن، وهي فترة ليست بالبعيدة، ولا تذكر في عمر القاهرة العصية، فعبدة التريند يأكلون الآن، وارتفع سعر طبق الفول لعشرين جنيه وأكثر، والطعيمة لها مكان على عربة الفول، وتحور الباذنجان المخلل لمقلي ومسقعة، وتطورت البطاطس، حتى عكف البسطاء عن عربة الفول، ولم تعد عربة الفول كتلك التي أعرفها، حتى عبارة "إن خلص الفول أنا مش مسؤول".

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق