«صوت الأمة» تجيب على السؤال الحائر.. أيهما أفضل للمواطن الدعم النقدي أم العيني؟

السبت، 08 يونيو 2024 08:23 م
«صوت الأمة» تجيب على السؤال الحائر.. أيهما أفضل للمواطن الدعم النقدي أم العيني؟
أعدت البحث: هبة زين

هبة زين الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية تكشف في دراسة مزايا وعيوب أنظمة الدعم

الدعم الحكومي المصرى الأكبر في المنطقة.. وبدأ في الخمسينيات بتطبيق نظام الدعم السلعي المستمر حتى الآن

الدولة قطعت شوطًا طويلاً في تحسين آليات الدعم ووسعت البرامج والمبادرات بشكل مستمر لتحسين مستوى المعيشة للفئات المهمشة والأكثر احتياجًا

منظومة الخبز يستفيد منها 71 مليون مواطن بحصة يومية قدرها 5 أرغفة.. و63 مليون مستفيدين من بطاقات التموين

المنظومة تشمل طرح الوقود والكهرباء بأسعار تقل عن تكلفة الإنتاج.. وبرنامج "تكافل وكرامة" واحد من أهم برامج التحويلات النقدية

ميكنة بطاقات التموين وتنقيحها ساهمت نسبيًا في ضمان وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين والحد من الاستهلاك المفرط

الدعم العيني يضمن تلبية الاحتياجات الأساسية بأسعار مناسبة لكن يعيبه ارتفاع التكلفة التشغيلية وإهدار للموارد وشبهات فساد أثناء عمليات التوزيع

الدعم النقدي يمنح المستفيدين المرونة الكافية في الإنفاق بدلاً من تلقي سلع قد لا تكون مفيدة للمواطنين وتكاليف تنفيذه أقل

النقدى يتطلب وجود قاعدة بيانات محدثة ومرنة وبنية تحتية مالية قوية.. ومرونة في تحديد مبلغ الدعم وفقاً لمؤاشرات التضخم

 

 

يعد الدعم الحكومي جزء أساسي من السياسات العامة لأي دولة تسعى لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وهو عبارة عن الامدادات المالية المقدمة من قبل الحكومة لتخفيض أسعار السلع والخدمات الأساسية بالنسبة للمواطنين، ويتم تطويع أشكال وآليات الدعم الحكومي لكل دولة وفقًا لمحددات وتحديات كل فترة لتوفير شبكة أمان للفئات الأكثر احتياجًا في المجتمع، وتأمين حد أدنى من الدخل والخدمات الأساسية؛ لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتحسين جودة الحياة لجميع أفرادها.

تتنوع آليات الحكومات لدعم مواطنيها في عدة صور أبرزها: الدعم المباشر كالمعاشات والمساعدات الاجتماعية (العينية والنقدية)، أو الدعم غير مباشر كدعم السلع والخدمات الأساسية، أو الدعم الضريبي من خلال توجيه إعفاءات ضريبية لقطاعات بعينها أو لمدة معينة أو رفع الحد الضريبي، بما يتناسب مع كل فترة، فلأدوات الدعم الحكومي دور حيوي في تخفيف حدة الفقر بين الأسر الأكثر احتياجًا، من خلال توفير الاحتياجات الأساسية من غذاء ودواء ومسكن، كذلك تحفيز النمو الاقتصادي من خلال دعم قطاعات إنتاجية معينة، ما يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي.

لكن في المقابل، تشكل أدوات الدعم الحكومي عبء على ميزانية الدول خاصة حال عدم وجود موارد تمويلية مستدامة، كذلك قد تؤثر على الكفاءة الاقتصادية للأسواق خاصة حال وجود سعرين للسلعة الواحدة، ودائما ما توجه أصابع الاتهام لأدوات الدعم الحكومي باعتبارها أحد أسباب هدر الأموال العامة نتيجة عدم الاستهداف الجيد والفعال لمستحقي الدعم، وبخلاف ذلك قد تؤدي بعض آليات الدعم إلى الاعتمادية المفرطة من بعض المواطنين، والارتكان إلى تلقي الدعم بدلًا من السعي للعمل والإنتاج.

تاريخ ممتد

تتمتع مصر بتاريخ طويل في تقديم الدعم الحكومي لمواطنيها، يعود إلى العقود الأولى من القرن العشرين، التزاما بالدساتير المصرية التي أكدت جميعها باختلاف صياغتها وتعهداتها على ضرورة تحقيق الحماية الاجتماعية لضمان كرامة مواطنيها، ويعد أبرزها دستور 2014، أكثرها تأكيدًا على هذا الحق، ونص بشكل صريح على التزام الدولة بتوفير الحماية الاجتماعية لكل المواطنين.

ويمكن الفصل بأن بداية التجربة المصرية مع برامج الدعم الحكومي تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، مع تطبيق نظام الدعم السلعي، والذي يستمر حتى الآن؛ لتأمين الاحتياجات الأساسية للأسر ذات الدخل المحدود، والتخفيف من وطأة الفقر والجوع. خلال هذه الفترة مر الدعم بأشكال وتطورات متعددة، ليتناسب مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد، ليتطور ويتنوع بين دعم عيني ونقدي مرورًا بالدعم الإغاثي في الكوارث الطبيعية والطارئة، وصولًا إلى توجه الدولة نحو تعديل فلسفة الحماية الاجتماعية من التوجه الإغاثي إلى التوجه الحقوقي التنموي من خلال التمكين الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأولى بالرعاية.

لكن رغم تاريخية عدد من آليات الدعم المنفذة والمستمر بعضها حتى الآن، بيد أن أصاب بعضها العطب نتيجة عدم استدامة الاستهداف والتقييم والتطوير، لينعكس ذلك على أدائها إجمالا في صورة تراجع لجودة خدمات الحماية الاجتماعية المقدمة للمواطنين، وضعف التغطية النوعية والجغرافية، وسوء آليات استهداف المستحقين، وتفتت وتناثر الجهود، وجمود وبيروقراطية عدد هائل من القوانين واللوائح المنظمة لعمل آليات الحماية الاجتماعية.

فخلال هذه السنين، يتضح أن مصر قد قطعت شوطًا طويلاً في تحسين آليات وبرامج الدعم الحكومي، وتم توسيع وتطوير هذه البرامج والمبادرات بشكل مستمر وفقًا لمتطلبات وتحديات كل فترة، إلا أن عملية التطوير هذه لم تكن كافية لتحسين آليات الدعم القائمة، أو لعلاج الأمراض المجتمعية كالفقر والجوع والمرض والجهل التي باتت تنخر في جسد الأمة، مع تراكم وتزامن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي ألمت بالدولة على مر العقود الماضية، لتعجز هذه البرامج عن توفير الحماية الاقتصادية والاجتماعية وأيضًا الصحية للفئات المعنية بها من جانب. وتصبح عبء على كاهل الاقتصاد المصري، حيث يستنزف الدعم الحكومي بمختلف آلياته قرابة نصف موازنة الدولة، بخلاف كونه أحد منابع الفساد التجاري بالدولة، وبدوره يسهم في تشوه آليات السوق خاصة فيما يخص السلع الأساسية، من جانب أخر. 

واقع مشوه

بوجه عام؛ يُعتبر نظام الدعم الحكومي في مصر من أكبر نظم الدعم في المنطقة، حيث تسعى الحكومة المصرية من خلاله إلى تحسين مستوى المعيشة للفئات المهمشة والأكثر احتياجًا، من خلال عدة برامج ومبادرات لدعم السلع الأساسية، بالإضافة إلى برامج التحويلات النقدية المشروطة وغير المشروطة، أو من خلال مبادرات ومشروعات قومية كبرى تستهدف تحسين جودة الخدمات والمرافق الأساسية لتغيير واقع الحياة اليومية للمواطنين، كمشروعات القضاء على العشوائيات والمناطق الخطرة، وحياة كريمة، وغيرها، ولعل أبرز عناصر الدعم الموجهة للمواطنين ما يلي:

دعم الخبز: يستفيد من منظومة الخبز قرابة 71 مليون مستفيد، حيث يتم تخصيص لكل مواطن حصة يومية تقدر بـ 5 أرغفة/يوم، توزع من خلال أكثر من 30 ألف مخبز بلدي مدعم على مستوى الجمهورية.بطاقات التموين: يستفيد من هذه المنظومة قرابة 63 مليون مستفيد، ويتم من خلالها توزيع السلع الأساسية مثل الأرز، والزيت، والسكر من خلال بطاقات التموين، بأسعار مدعومة. دعم الوقود والكهرباء: ويتم من خلال هذه المنظومة بيع الوقود ويشمل البنزين، والديزل، والغاز الطبيعي المستخدم في المنازل، والكهرباء الموجهة للاستخدام المنزلي وبخاصة الشرائح الاستهلاكية الثلاث الأولى، بأسعار مدعومة تقل عن تكلفة الإنتاج. برنامج تكافل وكرامة: وهو واحد من أهم برامج التحويلات النقدية التي استحدثتها الدولة مؤخرًا لتقديم الدعم المالي للأسر الأولى بالرعاية، والتخفيف عن كاهلهم بعض من تداعيات برنامج الإصلاح الاقتصادي، ويستهدف البرنامج الأسر الأكثر فقراً وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة.

ومع ذلك، يواجه نظام الدعم -عمومًا- في مصر العديد من التحديات ومواطن القصور التي تؤثر على فعاليته وكفاءته، إذ يعاني نظام الدعم من مشكلات الفساد والإهدار في توزيع السلع، حيث تصل بعض السلع إلى الأسواق السوداء أو تُستخدم لأغراض غير قانونية، أو يتم التلاعب والتبديل من قِبل البدالين في قائمة المنتجات المصروفة للمواطن، أو التلاعب في وزن وجودة الخبز المدعوم من قبل أصحاب الأفران البلدي المدعوم، في حين تستورد الدولة ما يزيد عن 60% من احتياجاتها من القمح من الخارج.

على الجانب الأخر، فمنظومة السلع التموينية أو توزيع الخبز لم تشهد تغيير جذري سوى قبيل بضعة سنوات فقط، فقبلها كانت منظومة التموين مصابة بعوار شديد، حيث كانت تضم المنظومة الكثيرين غير المستحقين للدعم السلعي، وعدم عدالة توزيع المواد التموينية بمختلف الأحياء السكنية والمحافظات على حد سواء، لكن عام 2014/2015، استحدثت الحكومة منظومة نقاط الخبز غير المستخدمة، وبحلول عام 2016، ارتفع الدعم النقدي الشهري للفرد من 15 إلى 21 جنيهًا، ووصل الدعم النقدي الشهري للفرد على البطاقة إلى 50 جنيهًا في 2019، في أعقاب عملية تحديث بيانات المستفيدين من الدعم عن طريق تنقية البطاقات التموينية، وقد ساهمت ميكنة بطاقات التموين وتنقيحها نسبيًا في ضمان وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين، والحد نسبيا من الاستهلاك المفرط وإعادة الاتجار بالمواد المدعومة في السوق السوداء، لكن في النهاية مازالت آلية عدالة التوزيع تحتاج إلى مزيد التعديل والمرونة وتنقيح مزيد من غير المستحقين.

 

تكلفة الدعم

على الجانب الأخر، يعتبر ارتفاع تكلفة الدعم أحد المنغصات على الاقتصاد المصري، إذ تشكل مخصصات الدعم عبئاً كبيراً ومتزايد على الميزانية الحكومية. فقد وصلت قيمة دعم رغيف الخبز فقط في 2023 إلى 91.6 مليار جنيه، في مقابل 18.5 مليار جنيه ما قبل 2014. فمن المتوقع أن يتم تخصيص أكثر من نصف إيرادات الدولة المتوقعة بالموازنة الجديدة للعام المالي المقبل ٢٠٢٤/ ٢٠٢٥، للإنفاق الاجتماعي على الدعم والحماية والاجتماعية، والتنمية البشرية بمحوريها: الصحة والتعليم.

كذلك يشهد بند مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية زيادة سنويًا، إيمانًا من الدولة بضرورة التخفيف عن كاهل المواطنين، فشهدت موازنة العام المالي 2023/2024 زيادة في مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية لنحو 529.685 مليار جنيه بزيادة عن الموازنة السابقة لها والتي قدرت بـ 425.993 مليار جنيه. في حين، تم تخصيص ٦٣٥.٩ مليار جنيه للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بموازنة العام القادم 2024/2025، بزيادة تقارب الـ20%. بما فى ذلك: تخصيص ١٥٤.٥ مليار جنيه لدعم المواد البترولية مقارنة بـ ١١٩.٤ مليار جنيه بموازنة السنة المالية الحالية، بزيادة ٣٥.١ مليار جنيه بنسبة ٢٩.٤٪، و١٣٤.٢ مليار جنيه للسلع التموينية و٤٠ مليار جنيه لمعاش الضمان الاجتماعي وتكافل وكرامة، بزيادة أكثر من ٩ مليارات جنيه عن موازنة العام المالى الحالى، و١١.٩ مليار جنيه للإسكان الاجتماعي.

كما سيتم دعم توصيل الغاز الطبيعي للمنازل بنحو ٣.٥ مليار جنيه، و١٨.٤ مليار جنيه للتأمين الصحي والأدوية وعلاج غير القادرين على نفقة الدولة و٢.٤ مليار جنيه لدعم منظومة التأمين الصحى الشامل في المحافظات التي يتم التطبيق فيها ودعم غير القادرين، و١٥.٤ مليار جنيه للهيئة العامة للرعاية الصحية منها ٨.٤ مليار جنيه ممولة من الخزانة العامة، واستمرار دعم ومساندة المبادرات الصحية، وزيادة مخصصات الأدوية والمستلزمات الطبية إلى ٢٦.٧ مليار جنيه.

ووفقًا لما تم إقراره بموازنة العامة الجديد، فقد تم تخصيص ٢١٤.٢ مليار جنيه لصالح الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية، لسداد دعم الخزانة لأصحاب المعاشات ليصل إجمالى ما تم تحويله للهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية بنهاية يونيو ٢٠٢٥ إلى تريليون و١١٦ مليار جنيه. وتمويل برامج تحفيز النشاط الاقتصادى، خاصة مساندة قطاع الصناعة والأنشطة التصديرية، وغيرها من المبادرات بإجمالى ٤٠.٥ مليار جنيه، ومنها: ٢٣ مليار جنيه للاستمرار في سرعة رد الأعباء التصديرية، واستمرار تحمل الأعباء المالية المترتبة على خفض أسعار الكهرباء لقطاع الصناعة، بتكلفة سنوية ٦ مليارات جنيه، وتحمل قيمة دعم الفائدة فى مبادرة التسهيلات التمويلية للقطاعات الإنتاجية «الصناعة والزراعة» بنحو ٨ مليارات جنيه، بخلاف ١.٥ مليار جنيه قيمة الحوافز النقدية للمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر ونصف مليار جنيه لدعم استراتيجية صناعة السيارات، واستمرار تحمل الخزانة عن الصناع والمستثمرين قيمة الضرائب العقارية على المباني المستخدمة في ممارسة الأنشطة الصناعية بنحو ١.٥ مليار جنيه، ودعم المزارعين بمبلغ ٦٥٧ مليون جنيه بخلاف دعم فائدة الرى الحديث بنحو ٣٠٠ مليون جنيه.

وفي محاولة لتبني سياسات من شأنها تعزيز حوكمة هذه المنظومة؛ بهدف تقليل جزء ضئيل من الأعباء التي تتحملها الدولة، خاصة بعد تأثر الاقتصاد المصري بعدد من اللطمات المتوالية والمتزامنة الأثر كجائحة كورونا، والحرب على قطاع غزة مرورًا بالأزمة الروسية الأوكرانية، والأزمة السودانية، أوضح الدكتور مصطفى مدبولي، أن الحكومة السابقة وضعت خطة بمستهدفات وأرقام واضحة تستطيع من خلالها في الفترة القادمة زيادة موارد الدولة من العملة الصعبة، وزيادة صادراتها وتقليل فاتورة الاستيراد من خلال حوكمة عملية الاستيراد، وبما يجنب مصر التعرض مرة أخرى لهذه النوعية من الهزات الاقتصادية.

لذا تم وضع خطة واضحة للعودة مرة أخرى لمرحلة التوازن في أسعار المواد البترولية بنهاية عام ٢٠٢٥ بطريقة متدرجة، ولكن سيظل السولار حتى بعد عام ٢٠٢٥ مدعماً وليس بسعره الحقيقي، ولكن منتجات البنزين  سوف تعوض الفارق. كما تم تكليف وزير الكهرباء بإعداد خطة أخرى لمدة ٤ سنوات، لكي يتم تدريجياً تحريك أسعار الكهرباء، بحيث تكون الفئات البسيطة دائماً مدعومة بصورة كبيرة.

فيما اتخذت الحكومة السابقة، قرار برفع سعر الخبز المدعم –والذي لم يتحرك سعره اسميًا منذ ما يزيد عن 3 عقود- إلى 20 قرشًا اعتبارًا من بداية شهر يونيو الجاري، لتدعم الدولة كل رغيف بـ105 قروش، الأمر الذي أثار لغط واسع بالشارع المصري، باعتبار أن المساس "برغيف العيش" هو أحد التابوهات التي لم تتجرؤ أي حكومة على تحريكه من قبل.

 

الحوار الوطنى حول شكل الدعم

فيما أثار رئيس الوزراء الجدل أيضًا، بدعوته الاستعانة بـ "الحوار الوطني" الذي يمثل كل أطياف المجتمع من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، في ملف الدعم النقدي، لمناقشة الآراء التي تفيد بأن الدولة المصرية تحتاج إلى أن تتحول إلى منظومة للدعم النقدي وليس الدعم العيني، بمعنى إعطاء مبلغ نقدي للمواطن بحيث يُمثل ذلك المبلغ متوسط ما تتحمله الدولة من دعم له، وذلك بدلًا من دعم رغيف الخبز والسلع التموينية وبعض الخدمات. وفيما يلي نحاول نستعرض أبرز مزايا وعيوب الدعم النقدي مقارنة بالدعم العيني المطبق حاليًا بمصر.

مزايا وعيوب مركبة

يُعتبر نظام الدعم الحكومي في مصر من أقدم وأكبر نظم الدعم في المنطقة، حيث تسعى الحكومة المصرية من خلاله إلى تحسين مستوى المعيشة للفئات الأكثر احتياجًا، وكافة المواطنين بشكل عام. ومع ذلك، يواجه نظام الدعم في مصر العديد من التحديات التي تؤثر على فعاليته وكفاءته والتي استعرضنا جزء منها فيما سبق. والآن؛ يجول في الشارع السياسي المصري آراء حول ضرورة التحول للدعم النقدي باعتباره الأفضل للمصريين في الوقت الراهن، فيما انطلقت آراء أخرى مناهضة تسترسل في ضرورة الإبقاء على النظام الراهن، بل ضرورة توسيع شبكة الحماية الاجتماعية الحالية، لتضرر الكثير من المواطنين جراء الأوضاع الاقتصادية الراهنة.

لذا بإمعان النظر حول نظام الدعم العيني –المطبق حاليًا- نجد إنه يتميز بقدرته على ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ورعاية اجتماعية نقدية، وضمان توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية كـ (الكهرباء، والمياه والصرف الصحي، والرعاية الصحية، والتعليم) بأسعار مناسبة، خاصة أن قيمة الدعم الحقيقي الموجه للمواطن يتضاءل مع مرور الزمن فمثلا قيمة الدعم الموجه على بطاقات التموين هي 50 جنيه فقط منذ 2019، وهو ما يعني تناقص القيمة الحقيقية للدعم نتيجة ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القيمة الشرائية عبر هذه السنين، وهو ما يجنب المواطن والدولة عواقب سوء الإنفاق، إذ يحد الدعم العيني من فرص –خاصة مع تحديد السلع المدعومة- إنفاق المال على سلع غير ضرورية.

على الجانب الأخر، تضمن هذه الآلية استقرار أسعار السلع الأساسية في السوق، وضمانة توفيرها بقدر وكم مناسب للمواطنين من خلال المنافذ الحكومية، ويحد نسبيًا من أثر التصرفات الاحتكارية لبعض التجار، وفي هذا الصدد، يوفر الدعم العيني استهداف أدق للأسر الأكثر حاجة عند توزيع سلع بعينها مباشرة.

في المقابل، يؤخد على نظام الدعم العيني بعض الأمور، أهمها: ارتفاع التكلفة التشغيلية لمنظومة الدعم العيني، فهي تحتاج إلى تنسيق لوجيستي معقد، وقد يتسبب ذلك في تأخير التوزيع ووصول الدعم إلى المستفيدين بسبب مشاكل في النقل والتوزيع. فيتطلب تخطيط عمليات التوزيع ضرورة توفير بدالين بالعدد الكافي والمتناسب مع سكان ومساحة كل منطقة، وتجمع عمراني جديد، بجانب التنسيق مع المنطقة اللوجيستية المثلى التي يمكن من خلالها توزيع السلع التموينية والدقيق لمراكز التوزيع للمواطنين. وهو ما يؤكد احتمالية حدوث إهدار للموارد وشبهات فساد أثناء عمليات التوزيع من الأفرع المركزية والوسيطة وصولًا للمواطن، ومن أشهر أشكاله: غش أصحاب الأفران في وزن الرغيف، أو مغالطة المواطنين في عدد الأرغفة المباعة في كل عملية وسرقة فارق العدد، أو تلاعب البدالين في قائمة السلع المصروفة وتبديلها بسلع استراتيجية على أن يتم إعادة بيعها بالسعر الحر مرة أخرى، وهو ما ينقلنا إلى افتقاد الدعم العيني لميزة المرونة، حيث يفتقر المستفيدون إلى حرية اختيار كيفية استخدام الدعم وتنويع المنتجات وفق تفضيلات معينة، مما قد يؤدي إلى تلبية احتياجاتهم بشكل غير كامل.

 

مزايا الدعم النقدى

على النقيض من ذلك، يمنح الدعم النقدي المستفيدين المرونة الكافية في الإنفاق، فيستطيع المستفيدين تحديد كيفية إنفاق المال بناءً على احتياجاتهم وتفضيلاتهم الفعلية، بدلاً من تلقي سلع قد لا تكون مفيدة لهم في جميع الأوقات، وهو ما يعزز من استقلالية الأفراد ويساهم في تعزيز كرامتهم واحترام خياراتهم. وهو نفسه الأمر الذي قد يسهم في تقليل الفساد والإهدار في توزيع السلع والخدمات، والأموال فمن السهل تتبع حركة الدعم النقدي بشكل افضل والتأكد من ضمان وصوله إلى المستفيد المستحق من خلال أدوات الشمول المالي.

على الجانب الأخر، يسهم الدعم النقدي في تخفيض التكاليف التشغيلية واللوجيستية لتوزيع السلع في سلسلة التوريد المعتادة، فيمكن تنفيذ برامج الدعم النقدي بتكاليف أقل بكثير عبر التحويلات البنكية أو البطاقات الإلكترونية. بل إنه يسهم في تحفيز الاقتصاد المحلي،- حال تم تحديد مسارات الدفع على السلع المحلية فقط- كذلك يتم إنفاق الأموال في الأسواق المحلية، وهو ما يشجع مزيد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة على الإنتاج والاستثمار في السوق المصري، كما يسهم في دمج آلاف من مؤسسات الاقتصاد غير الرسمي بالاقتصاد الرسمي للقدرة على الانخراط كواحدة من نقاط تبديل الدعم الرسمية، وهو ما يعني مزيد من إحكام الرقابة على السوق وحوكمة تحركاته.

في المقابل، يؤخذ على نظام الدعم النقدي احتمالية سوء إنفاق بعض المستفيدين المال على سلع غير ضرورية أو ضارة، مثل الكحول أو التدخين. كما قد تواجه المنظومة صعوبات في الوصول إلى الأفراد الأكثر حاجة والمستحقين الحقيقيين إذا لم تكن هناك آليات تسجيل فعالة، وهو ما يتطلب وجود قاعدة بيانات محدثة وشاملة ومرنة –تحتمل حرية دخول وخروج الأفراد من المنظومة- للأفراد والأسر الأكثر حاجة. كما يتطلب وجود بنية تحتية مالية قوية، بما في ذلك وجود بنوك أو مؤسسات مالية موثوقة إلى جانب نقاط دفع مالية، ومنافذ بيع تعمل تحت مظلة الاقتصاد الرسمي وتحظى برقابة مالية وإدارية من قبل الدولة في جميع المناطق، وقد يكون هذا تحديًا في المناطق الريفية أو النائية الآن، لكن يمكن التغلب عليه بمراعاة ذلك بالتزامن مع إنهاء كافة مراحل المشروع القومي حياة كريمة.

 

مخاوف التحول للدعم النقدى

فيما يعد التخوف الأكبر من التحول نحو الدعم النقدي، تأثير التضخم وارتفاع الأسعار، فقد يؤدي ضخ أموال كبيرة في الاقتصاد إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات، مما يمكن أن يسبب تضخمًا وارتفاعا في الأسعار وبالتالي تآكل قيمة الدعم، أو وقوع المواطنين فريسة للسياسات الاحتكارية لبعض التجار وعدم وجود بديل حكومي مدعوم قادر على السيطرة على انحرافات السوق، لذا يجب أن تُدار هذه العملية بعناية لتجنب هذه الآثار السلبية، والتي يعاني منها الاقتصاد القومي في الأساس. وفي سبيل الطمأنة من مثل هذا التخوف أكد الدكتور مدبولي، رئيس الوزراء، أن مبلغ الدعم سيكون محددا ومعروفا، بل وقابلا للزيادة كل عام مع حدوث التضخم وفي ظل مؤشرات معينة.

كما يحتاج تطبيق المنظومة إلى تضافر كافة الجهود الرقابية والأمنية والتكنولوجية والمالية والاقتصادية لإحكام الرقابة على الأسواق ومراعاة التغيرات الممكنة في أسعار السلع عالميًا، والارتفاعات الممكنة لمعدلات التضخم. هذا كله، بخلاف التخوفات المجتمعية والاقتصادية لدى كل مواطن سوف يتأثر بشل كبير جراء هذا القرار، ولن رقعة التأثير عند المواطنين المشمولين ببرامج الحماية الاجتماعية، لكنها ستطال المواطنين المصريين جمعاء.

أيهما أفضل؟!

ويبقى التساؤل هل يتم الإبقاء على منظومة الدعم العيني، أم إنه حان الوقت للتحول للدعم النقدي؟ خاصة وأن التحول من الدعم العيني إلى النقدي يمثل خطوة جريئة نحو تحسين فعالية وكفاءة برامج الدعم الحكومي. فرغم التحديات المتعددة التي تواجه هذا التحول، إلا أن الفوائد المحتملة تجعله خيارًا يستحق النظر بجدية.

لكن في حقيقة الأمر، ليس هناك إجابة قاطعة على هذا السؤال، إذ تعتمد الإجابة على القبول العام للقرار وهو ما ستسفر عنها جلسات الحوار الوطني والمجتمعي المزمع عقدها خلال الأشهر القليلة القادمة، بجانب البيئة الاقتصادية والاجتماعية للدولة. إلى ذلك، تتطلب عملية التحول هذه تخطيطًا دقيقًا وتنفيذًا محكمًا لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وتحسين الأوضاع المعيشية للفئات المستهدفة. باتباع أفضل الممارسات ودراسة تجارب الدول الأخرى، وإلا ستكون عواقب فشل المنظومة الجديدة ستكون وخيمة ويصعب السيطرة عليها.

وبوجه عام، فالمعادلة هنا ليست صفرية ما يعني ضرورة الإلغاء التام لأحدهما، في حين يمكن تحقيق توازن ناجح بين الدعم النقدي والعيني بما يحقق الفائدة القصوى للمجتمع ككل. ومن ثم يمكن أن يكون الجمع بين النظامين هو الحل الأمثل، حيث يتم توفير دعم نقدي للذين يمكنهم استخدامه بشكل فعال –خاصة أن تطبيقه يتطلب اعتياد استخدام أدوات الشمول المالي في حين مازال يعاني حوالي 20% من الأمية الهجائية بين السكان بالفئة العمرية 10 سنوات فأكثر- ودعم عيني لمن يحتاجون إلى ضمان وصول السلع الأساسية مباشرة. فيعتمد القرار النهائي على تحليل دقيق للبيئة المجتمعية واحتياجات المستفيدين.

وأيا كان قرار التطبيق النهائي، بنهاية العام الجاري، فإن آليات التنفيذ الراهنة تتطلب مزيد من التطوير ببعض جوانبها، لعل أبرزها:

ضمان وجود شبكة واسعة - تنتشر بكافة ربوع الدولة بصورة كافية وعادلة- من المتاجر المعتمدة لدى الدولة ومندرجة ضمن الاقتصار الرسمي للدولة، وما يستتبعه ذلك من ضرورة توفير بنية تحتية ورقمية قوية وتنسيق لوجستي عالي لمنع التأخير والإهدار والفساد.  مع توفير آليات مراقبة تتيح تحكمًا أفضل في نوعية وكميات السلع التي يتم شراؤها لضمان عدم استغلال و/أو التلاعب بقسائم شراء السلع الاستراتيجية. لضمان كفاءة وفعالية توزيع الدعم ومنع الفساد والإهدار. وفي هذا الصدد، ينبغي نشر الوعي بين المستفيدين حول كيفية الاستفادة من الدعم، وأهمية الاستخدام الرشيد للموارد، وتكلفة التراخي والمشاركة في هدر الدعم. مع تغليظ العقوبات والغرامات بقضايا الفساد من هذا النوع. بناء شراكات تعاون مع المنظمات ومنافذ البيع غير الحكومية المحلية والدولية لتوزيع السلع على المستفيدين. ومن خلال بطاقات بنكية مشحونة برصيد محدد يمكن من خلالها إتاحة شراء سلع معينة من المتاجر المعتمدة، ويمكن الاعتماد على نتائج التجربة الجاري تطبيقها بمحافظة بورسعيد لدراسة مدى قابلية الآلية للتنفيذ، ومدى تقبل المواطن لها.ضرورة بناء قواعد بيانات أكثر شمولا وإحكامًا وتطورًا وترابطًا ومرونة للتكيف مع الظروف المتغيرة والاحتياجات المتنوعة للمستفيدين، وضمانة قابلية دخول وخروج المواطنين من منظومة الدعم وفق المحددات المختلفة بسهولة ويسر، لاستعادة الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة.

ختامًا، نظام الدعم الحكومي في مصر يلعب دوراً حيوياً في تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، واستطاع على مر العقود من انتشال العديد من الأسر من براثن الفقر، وتقليل حدته. ولكن لعدم استدامة تقييمه وتطويره خلال هذه الفترة، فإنه يواجه تحديات كبيرة تتطلب إصلاحات جذرية لضمان فعاليته وكفاءته. من خلال تحسين آليات الاستهداف، ومكافحة الفساد، وإعادة النظر في إمكانية التحول التدريجي في بعض أشكال الدعم إلى نقدي، وبغض النظر عن آلية الدعم المنفذة أصبح لزاما على الدولة ان تضع نصب أعينها إنه لا مناص من ضرورة تعزيز المكون والمنتج المحلي وتقليل فاتورة الاستيراد.

 

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق