القتل البطىء!
السبت، 25 مايو 2024 01:54 م
العقوبات الاقتصادية الغربية ضد إيران المتهم الرئيسى فى حادث الطائرة الرئاسية الإيرانية
واشنطن والعواصم الأوروبية تتبنى سياسة طويلة الأمد لمواجهة النظام الإيرانى شبيهة بالحرب الباردة.. وطهران تراجع نفسها بمزيد من الانفتاح
واشنطن والعواصم الأوروبية تتبنى سياسة طويلة الأمد لمواجهة النظام الإيرانى شبيهة بالحرب الباردة.. وطهران تراجع نفسها بمزيد من الانفتاح
الحاجة أُم الاختراع، لذلك شهدت الصناعات العسكرية الإيرانية تطورا ملحوظا خلال السنوات القليلة الماضية، مستفيدة من الضغوط الغربية الأمريكية عليها، وفى الوقت ذاته انفتاح شرقى متمثلا فى روسيا والصين منحها القدرة على إنتاج مسيرات تسبّب إزعاجا كثيرًا فى المنطقة، وصواريخ وغيرها من المعدات العسكرية التى يتردد صداها فى مدن عربية من خلال حركات ترتبط بعلاقة وثيقة مع طهران.
لكن الحاجة ليست النظرية الوحيدة الكفيلة بأن تعوض إيران احتياجاتها بالاكتفاء الذاتى الداخلى أو تطوير بنيتها، وهنا يبرز الدور القوى للعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على إيران طيلة العقود الأربعة الماضية، والتى دائما ما كانت طهران تتعامل معها بمنطق أنها غير مؤثرة، رغم أنها فى حقيقة الأمر تمثل القتل البطىء للدولة الإيرانية والإيرانيين، مفعولها ليس وقتيا، إنما يمتد لسنوات طويلة، شبيه بما حدث فى الاتحاد السوفيتى الذى خاضت ضده واشنطن حربا باردة أدت إلى سقوطه وتفككه لدويلات دون طلقة نار واحدة، وهو ما تراهن عليه واشنطن ومعها عواصم غربية يحدوها الأمل أن تتمكن العقوبات الاقتصادية المتتالية فى إسقاط شرعية النظام الايرانى، بدلا من المواجهة العسكرية.
ولا يخفى على المتابعين أن هذا النموذج، القتل البطىء، لا يلقى ترحيبا من دولة مثل إسرائيل التى تريد نظاما فى إيران شبيه بنظام الشاه، لذلك فإنها تلوّح دوما وتدفع حلفاءها الغربيين للجوء إلى المواجهة العسكرية المباشرة مع طهران.
عودة للقتل البطىء، فإن واشنطن ومعها حلفاؤها الأوربيون يريدون أن تعمل العقوبات على قطع الصلة بين الشعب والنظام الإيرانى، وتفكيك هذا النظام داخليا، لذلك فالأرجح انهم سيعمدوا خلال الفترة المقبلة على التضخيم من حادث سقوط الطائرة الرئاسية وربط الحادث بالمواقف السياسية الإيرانية التى جلبت على طهران عقوبات منعتها من تطوير أسطولها الجوى، وجعتلها غير قادرة على توفير الحماية لواحد من رؤوس النظام وهو رئيس الجمهورية، وأنهم حينما أرادوا العثور على الطائرة لم يكن أمامهم من بديل سوى الاستعانة بخدمات الأصدقاء فى روسيا وتركيا.
هذا الحادث وأيا كانت أسبابه، هو ما كانت تنتظره واشنطن لتقول للإيرانيين ان كلمتها قوية وأن عقوباتها نافذة، وأن الحل فى العودة للحضن الامريكى مرة أخرى والا ستستمر سياسة القتل البطىء.
والاثنين الماضى، أعلنت إيران وفاة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسي، البالغ من العمر 63 عاما، ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، إثر تحطم مروحية فى مقاطعة أذربيجان الشرقية الجبلية بإيران، وقالت إن جميع من كانوا على متن الطائرة لقوا مصرعهم.
ولم يذكر المسئولون الإيرانيين سبب سقوط طائرة الهليكوبتر من طراز بيل 212 أمريكية الصنع التى كانت تقل رئيس إيران ووزير الخارجية فى طقس ضبابى فى شمال غربى إيران، ومنذ العقوبات الغربية الأمريكية على إيران بعد إعلان الثورة عام 1979، تمكنت إيران من الاحتفاظ بعدد قليل من طائرات الهليكوبتر المدنية والعسكرية المصنعة فى الولايات المتحدة، باستخدام مزيج من الأجزاء المهربة والهندسة العكسية.
وفى اليوم التالى للحادث المأساوى، ألقى وزير الخارجية الإيرانى الأسبق محمد جواد ظريف، باللوم على العقوبات الأمريكية التى تستهدف صناعة الطيران الإيرانية، بحادثة تحطم طائرة الهليكوبتر الرئاسية، وقال فى مقابلة مع التلفزيون الرسمى الإيرانى، إن الصعوبة التى واجهتها إيران فى شراء قطع الغيار لطائرات الهليكوبتر القديمة، بعد عقود من العقوبات، قد ساهمت فى الحادث المميت.
وقال ظريف نصا: «أحد أسباب هذه الحادثة المفجعة هى الولايات المتحدة، التى من خلال فرض عقوبات على صناعة الطيران فى إيران تسببت فى استشهاد الرئيس ورفاقه، جريمة أمريكا سترسخ فى عقول الشعب الإيرانى وفى التاريخ».
ما قاله ظريف، يؤكد أن سياسة القتل البطىء الذى تمارسه واشنطن والعواصم الغربية ضد إيران تحقق نجاحا وقتيا، وتحقق الهدف منها، وإلا ما تصاعدت الشكاوى الإيرانية بهذا الشكل الرسمى، أخذا فى الاعتبار إن إيران كانت فى الماضى تعيش حالة إنكار تامة لتأثير مثل هذه العقوبات عليها.
وحرمت طهران من تجديد أسطول الطيران المتهالك، والذى يعود إلى حقبة الشاه قبل عام 1979، وهو تاريخ نجاح الثورة الإسلامية وبداية العداء مع الولايات المتحدة، وفى سبعينيات القرن الماضى، كانت إيران مشتريا رئيسيا للطائرات الهليكوبتر من طراز BELL فى أثناء حكم الشاه من الولايات المتحدة، ونتيجة العقوبات المستمرة منذ عقود، صار من الصعب على إيران الحصول على قطع غيار للطائرات أو تحديثها، ويخضع قطاع الطيران المدنى الإيرانى تحت وطأة العقوبات الأمريكية.
وكان توقيع الاتفاق النووى 2015، بمثابة طوق النجاة لطهران، إذ شرعت فى عقد صفقات وعقود مع شركات أوروبية لتجديد اسطولها، لم يتم تسليم سوى ثلاث طائرات إيرباص و13 طائرة توربينية ATR، وما لبث أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووى مايو 2018 ما أدى لتعليق باقى الصفقات.
وفرضت الولايات المتحدة منذ انسحابها من الاتفاق النووى، عقوبات مشددة على طهران لإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات وإبرام اتفاق جديد يقوض من برنامجها الصاروخى البايستى ونفوذ طهران فى المنطقة، والعقوبات عرقلت صفقات أبرمتها حكومة روحانى الرئيس السابق، مع شركات طيران بوينج وشركات أوروبية أخرى.
الشئ الموكد الآن، أن الفترة المقبلة، ومع دخل إيران مرحلة انتخابية طارئة، لانتخاب رئيس جديد خلال خمسين يوما، ربما يكون لهذا الحادث، وللعقوبات الاقتصادية تأثير على المشهد السياسى الإيراني، وربما يترافق ذلك مع تدخلات غربية، يستهدفون من خلالها توصيل رسالة للإيرانيين بأنهم ليسوا بعيدين عن مصير «رئيسى» اذا استمرت إيران بنهجها الحالى خاصة فى السياسة الخارجية، ويقوى من هذا السيناريو تصاعد الحديث فى الداخل الإيرانى عن هذه العقوبات وتأثيراتها وكيفية تجاوزها.
المؤكد أيضا، أن هذا الحادث، ورغم عدم تأثيره على بنية النظام الإيرانى الداخلى، إلا أنه سيكون مدخلا لإجراء تعديلات ولو طفيفة فى سياسة إيران الخارجية، أخذا فى الاعتبار أن رئيسى ومعه وزير الخارجية الراحل، بدأ قبل عامين تقريبا سياسة انفتاحية أنتجت اتفاقا مع السعودية برعاية صينية، والطلب من مصر الدخول فى تفاهمات لتصحيح المسار القديم، بالإضافة إلى تفاهمات وحوارات غير مباشرة وبعضها مباشر مع واشنطن، برعاية من سلطنة عمان، ظهرت تأثيراتها القوية فى التفاعل الإيرانى مع الإستهداف الإسرائيلى للقنصلية الإيرانية فى العاصمة السورية دمشق، فقد ردت إيران على هذا الاستهداف وفق المتفق عليه، وربما كانت الأيام المقبلة مرشحة لمزيد من التفاهم الأمريكى الإيرانى، وإن كانت إسرائيل هى العائق الوحيد.
وأغلب الظن أن القيادة الإيرانية تدرك جيدا أن الحادث الأخير رغم أنه لا يؤثر على البنية الأساسية للنظام، لكنه يبعث برسائل سلبية للداخل، ستعمد قوى خارجية على تقويتها لتحقيق نوع من الاضطراب الداخلى، لذلك فإن طهران ربما تسارع إلى أخذ القرار من ناحيتها، واستكمال سياسة رئيسى الانفتاحية فى المنطقة، وربما زيادة هذه الوتيرة، بحيث تتجنب عواقب ما تخشاه من تأثيرات على الداخل، ولتقلل أيضا من تداعيات العقوبات المتلاحقة، سواء من واشنطن او مجلس الأمن الدولى، ويساعد فى ذلك أيضا أن الوضع الاقتصادى الإيرانى يعانى مشاكل كثيرة، وكلها أمور تدفع الإيرانيين إلى إحداث نوع من المراجعة الداخلية السريعة، والتجاوب مع التحركات الأقليمية والدولية، حتى تتجنب سياسة القتل البطىء، وتلحق نفسها ولو من داخل غرفة إنعاش سريعة.