اللى بنى مصر..

طلعت حرب.. قائد مسيرة الإنعاش والتمصير (الحلقة الأولى)

السبت، 11 مايو 2024 09:00 م
طلعت حرب.. قائد مسيرة الإنعاش والتمصير (الحلقة الأولى)
محمد الشرقاوى

- مات جسده وبقيت رحلته لنحكى للأجيال عن «أبو الاقتصاد المصرى» والمثقف والمدافع عن الهوية أول من تصدى لمحاولات تمديد عقد امتياز قناة السويس عام 1910.. وارتبط اسمه بإنشاء شركات تسهم فى تنمية الاقتصاد الوطنى
 
يزخر تاريخ مصر الحديث ببناة النهضة والحضارة، أحفاد بناة الأهرامات، أولئك الذين كتبوا بآمالهم تاريخا جديدا، حملوا الرسالة كالأنبياء، ورسموا طريقا للمستقبل، نراهم ونعرفهم، وكأنهم بيننا الآن، صورهم على جدران المؤسسات الوطنية، وأسماؤهم على لافتات الميادين العامة والمدارس والمؤسسات، والمحاور، والمدن أيضا. 
 
نشأ بناة الحضارة الجدد بيننا، وعاشوا خفافا على مقربة منا، فى بيوتنا، وفى حارتنا، وهذه القرية المجاورة، وتلك البعيدة، أتقنوا تخصصاتهم، حتى صاروا آباءً لها. 
 
فى «صوت الأمة»، وضمن سلسلة «اللى بنى مصر»، نكتب للتاريخ، ولهذه الأجيال، نحيى فيهم الأمل، ونخط لهم مسارات المستقبل.
 
قبل 104 أعوام من الآن، كان المصريون على موعد مع «بنك مصر» أيقونة اقتصادية، وكيان وطنى، ساهم فى بناء اقتصادها، وصار جزءً من التاريخ، دعم جهودها فى جميع المجالات؛ لكن هذه الأيقونة ما كانت لتكون لولا أبو الاقتصاد المصرى الحديث، محمد طلعت حرب، ذلك الخالد فى دفاتر الوطنية المصرية. 
شرب طلعت حرب الوطنية منذ صغره، فهو رجل خرج من قلب «قصر الشوق» بحى الجمالية، لعائلة بسيطة يعمل والده موظفا بمصلحة السكك الحديدية، يمتد نسبه لعائلة «حرب»، بمنطقة ميت أبوعلى، إحدى قرى منيا القمح، والتى تتبع حاليا مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، بينما والدته تنتسب إلى عائلة صقر بنفس القرية.
 
حفظ القرآن الكريم فى طفولته، وبدأت رحلته مع التعليم بالالتحاق بمدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة، وبعدها الانضمام لمدرسة الحقوق الخديوية فى أغسطس 1885م؛ حيث حصل على شهادة مدرسة الحقوق فى عام 1889م، وكان من أوائل الخريجين، وانخرط أيضا فى دراسة العلوم الاقتصادية، ودرس اللغة الفرنسية حتى أجادها إجادة تامة، فى مرحلة مبكرة من حياته.
 
بعد تخرجه فى مدرسة الحقوق، التحق للعمل فى القسم القضائى بالدائرة السنية، وهى الهيئة التى كانت تدير أملاك الأسرة الحاكمة، ثم أصبح رئيسا لإدارة المحاسبات، وفى عام 1891، أصبح مديرا لمكتب المنازعات خلفا للزعيم الوطنى محمد فريد، وسرعان ما تم تعيينه فى منصب مدير قلم القضايا.. كل ذلك التفوق الوظيفى فى إدارة المشروعات، أكسبه صيتا ودفع عددا من الأعيان للاستعانة به فى إدارة أملاكهم، وهو ما زاد من خبراته الاقتصادية.
حرب تمصير الاقتصاد المصرى
 
شق الرجل طريقه هادفا لبناء نهضة مصر الاقتصادية، وكانت أولى هذه الخطوات مرهونة بإتمام «تمصير الاقتصاد»، وكان عام 1905 هو بداية الظهور الحقيقى لطلعت حرب كرجل اقتصاد وطنى بارز، حيث تم تعيينه مديرا لشركة «كوم أمبو» بمركزها الرئيسى بالقاهرة، ومنها انتقل للشركة العقارية المصرية، والتى عمل على تمصيرها، حتى أصبحت غالبية أسهمها ملكا لأبناء الوطن.
 
وفى عام 1908، أسس شركة تستهدف تقديم قروض مالية لأصحاب الأعمال الصغيرة المتعثرة - عادة ما كانوا مصريين- وسماها شركة التعاون المالى والتجارى.
 
تلك الخطوات المتأنية نحو التمصير، كانت ممهدة لخطوة واسعة حلم بها حرب، وهى إنشاء أول بنك وطنى مصرى، واستغل انعقاد المؤتمر المصرى الأول عام 1911 لتحقيق حلمه، وخلال المؤتمر الذى نظمه حزبا الأمة والوطنى، طرح فكرة إنشاء بنك برءوس أموال مصرية، وهى الفكرة التى لاقت قبولا كبيرا من جانب المشاركين بالمؤتمر، وانتهوا إلى إعداد دراسة كافية عن المصارف الوطنية فى أوروبا، استعدادا لتأسيس أول مؤسسة مالية وطنية.
 
وفى نفس العام، أصدر حرب كتاب «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين»، الذى طرح فيه فكرته بطريقة واضحة وشاملة، ليمهد أذهان المصريين، وبخاصة أصحاب رءوس الأموال لأول بنك مصرى.
 
وبينما كان أبو الاقتصاد المصرى، يستعد لأولى الخطوات العملية نحو تحقيق حلمه، عبر السفر إلى أوروبا، لنقل الخبرة الأجنبية فى إدارة المصارف الوطنية، اندلعت الحرب العالمية الأولى، ليدخل اقتصاد مصر فى نفق المعاناة، ومن ثم يقع الحلم فى خانة الركود.
 
عانى المصريون من ظروف اقتصادية صعبة جراء نشوب الحرب العالمية الأولى، واحتد الظرف السياسى بنفى الزعيم الوطنى سعد زغلول، ما أدى لاندلاع ثورة 1919.
 
وانطلق «حرب» فى معركته الوطنية، التى زاد حماسها بسبب الثورة إلى الإصرار على التخلص من التبعية الأجنبية، وفى هذه الفترة لم يكن هناك أى بنك وطنى، يعمل فى مصر، وكان السوق المصرفى، يقتصر على مجموعة من البنوك الأجنبية، حتى أن الحكومة المصرية، كانت تودع أموالها لدى البنك الأهلى التابع لسلطة الاحتلال رغم علمها بأنه يرسل ودائعه إلى الخارج.
 
لقد كان الاقتصاد المصرى فى قبضة الاحتلال أوائل القرن الماضى؛ لدرجة أن رأس المال الأجنبى، بلغ حوالى 91% من إجمالى رءوس أموال الشركات العاملة بالبلاد عام 1914، وهو ما جعل طلعت حرب، يتحرك فى اتجاه التمصير، وأولى خطواته فى سبيل ذلك، كانت بدء حملة لتأسيس بنك وطنى، وسرعان ما نجح فى إقناع 126 مصريا بالمشاركة فى اكتتاب لإنشاء شركة مساهمة لتأسيس بنك وطنى، بقيمة مالية بلغت 80 ألف جنيه، مثلت 20 ألف سهم، وبالفعل نجحت هذه العملية فى عام 1920، بتأسيس أول بنك وطنى، وهو ما مهد للخلاص من التبعية الاقتصادية للاستعمار من خلال أوراق المال.
 
وتم توقيع عقد تأسيس الشركة فى مارس 1920، وفى الشهر التالى، نشرت صحيفة الوقائع المصرية- الجريدة الرسمية للدولة- مرسوم تأسيس شركة مساهمة مصرية، تسمى «بنك مصر»، على أن يكون رأس مال البنك مصريا بإدارة مصرية، ولغة تعامل عربية.
 
ولم يمر عامان على افتتاح البنك، حتى أصبحت له عدة فروع فى عدة محافظات، ثم امتد الطموح لإنشاء فروع له ببلدان أجنبية، وبالفعل تم إنشاء أول فروعه الأجنبية، فى باريس عام 1926 لخدمة المصريين المسافرين إلى فرنسا، وفى عام 1930 تأسس فرع آخر فى لبنان، ثم فى المملكة العربية السعودية.
 
حرب التنمية 
 
ارتبط اسم طلعت حرب أيضا بالتنمية فى جميع المجالات، فقد ركز عبر بنك مصر على إنشاء شركات تسهم فى تنمية الاقتصاد الوطنى من خلال استثمار الإنتاج الزراعى فى تنمية قطاع الصناعة، منها: مصر للغزل والنسيج، ومصر لصناعة الورق، ومصر لحلج القطن، ومصر للكتاب، وأيضا مصر لغزل الحرير، ومصر للمستحضرات الطبية، ومصر لمستحضرات التجميل، ومصر للتأمين، ومصر للمناجم، وكذلك مصر لتكرير البترول، ومصر للسياحة، ومصر للنقل البحرى والنهرى.
 
هناك الكثير من الكتب عن طلعت حرب كمسيرة وسيرة ومشروع وطنى، من بينها كتاب الكاتب الأمريكى «إيريك ديفيز»، أستاذ العلوم السياسية البارز بجامعة «روتجرز»، وهو أيضا الرئيس السابق لمركز دراسات الشرق الأوسط بنفس الجامعة، وشغل مناصب أخرى بحثية، وعلمية فى جامعات أمريكا، وألمانيا، وكانت رسالته للدكتوراه بجامعة شيكاغو، وتمت ترجمة الرسالة فى بيروت 1986، وفى مصر 2008.
 
والكتاب بعنوان: «طلعت حرب وتحدى الاستعمار.. دور بنك مصر فى التصنيع 1920- 1941»، ترجمه هشام سليمان عبد الغفار، وتقديم العالم الجليل الدكتور إبراهيم فوزى، الأستاذ بهندسة القاهرة ووزير الصناعة الأسبق.
 
وفى الكتاب ناقش إيريك ديفيز، فكرة بروز الاستقلال الاقتصادى، قائلا إنه خلال فترة الركود الاقتصادى العالمى فى عام 1907، ازداد قلق ملاك الأراضى فى مصر من استمرار انخفاض أسعار القطن العالمية. ورأى السياسى المتمرد محمد طلعت حرب، أن دعم دور كبار ملاك الأراضى، يمكن أن يكون له دور مهم فى إنهاء الاعتماد على السوق البريطانية، التى كانت تقوم باستيراد القطن المصرى، ومن ثم تصنيعه فى معامل الغزل والنسيج فى بريطانيا، وبيعه على شكل ملابس فى مصر والأسواق العالمية.
 
لقد سعى طلعت حرب، لإعادة بناء السوق المصرية، لتصبح مصدرا رئيسيا لإنتاج وتصنيع القطن فى معامل غزل ونسيج مصرية، ومن ثم تصديره على شكل ملابس من مصر لبقية دول العالم، ومنها بريطانيا نفسها، كما واجه طلعت حرب السيطرة الاقتصادية الأجنبية على ثروات مصر الطبيعية، لا سيما إنتاج القطن وتصنيعه فى معامل غزل ونسيج فى بريطانيا.. رأى طلعت حرب، أنه لا يمكن لأى دولة أن تكون قوية إذا كان اقتصادها ضعيفا ومسيطرا عليه من قبل الاستعمار والقوى الخارجية.. رأى أن تأسيس بنك مصر، هو الخطوة الأولى فى تحدى الاستعمار. وإنهاء الهيمنة الغربية على الاقتصاد المصرى. 
 
ومن وجهة نظره، فإن تأسيس هذا البنك الوطنى، سيساهم فى توفير رأس المال اللازم لإقامة مشاريع اقتصادية جديدة، تكون مهمتها تحدى الاحتكارات الاقتصادية الخارجية، وقام بتأسيس بنك مصر فى عام 1920 فى أعقاب الثورة المصرية عام 1919. تكمن قوة مصر فى عائلاتها البارزة والعريقة، والتى منها انحدر أغلب التجار وكبار ملاك الأراضى والاقتصاديين، لذلك فإن خطر الاستعمار البريطانى، حسب وجهة نظر طلعت حرب، يتمثل فى سعيه لتقويض بنية الأسرة المصرية، أحد أهم السياسات، التى اتبعها طلعت حرب لمواجهة هذا التحدى، بعد إنشائه بنك مصر فى عام 1920، هى توظيف الشباب من العائلات البارزة فى مصر فى بنك مصر وشركاته.

مثقفا ومدافعا عن الهوية
 
وبدا طلعت حرب مهتما بالحركة الثقافية والفنية، وهو ما ظهر فى إدارته للبنك الذى أنشأ شركة مصر للطباعة عام 1922، وشركة مصر لصناعة السينما «أستديو مصر» عام 1927، كما لطلعت حرب إسهامات أخرى فى مجالات متنوعة، فكان سياسيا بارزا فى الحركة الوطنية أوائل القرن الماضى، وهو ما أهله ليصبح عضوا بمجلس الشيوخ.
 
وكان من الأعضاء البارزين بالجمعية الجغرافية المصرية، وله عدة مؤلفات اقتصادية منها كتاب «مصر وقناة السويس»، الذى تصدى فيه لمحاولات تمديد عقد امتياز قناة السويس عام 1910، وكتاب «علاج مصر الاقتصادى» عام 1911.
 
وتبنى وجهة نظر معاكسة لمفهوم تحرير المرأة، التى روج لها الكاتب قاسم أمين مطلع القرن الماضى، وقدم عدة كتب يفند فيها آراءه، ومنها «المرأة والحجاب»، و«فصل الخطاب فى المرأة والحجاب»، و«البراهين البينات على وجوب تعليم البنات» و«تاريخ دولة العرب والإسلام».
 
وفى كتابه عن قناة السويس، استعرض نشأة فكرة قناة السويس، وأنها مصرية صميمة منذ أيام الفراعنة، حينما قام سنوسرت الثالث بتوصيل نهر النيل بخليج السويس، ثم قيام عمرو بن العاص بإعادة حفر نفس القناة، لكن سُميت خليج أمير المؤمنين، واستمرت تؤدى دورها حتى ردمها أبو جعفر المنصور بعد 134 سنة بسبب الإضرابات السياسية. ويبرز الكتاب المنافسة الكبيرة بين القوى الاستعمارية للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، وقصة اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحكم البرتغال فى التجارة العالمية، وكيف أن الحكومات هولندا وإنجلترا وفرنسا، قامت بتأسيس شركات ملاحة، تقوم بنقل البضاعة بين الشرق والغرب.
 
وفى كتابه «علاج مصر الاقتصادى»، الذى يعد من المصادر المهمة لدراسة تاريخ الحركة الوطنية المصرية عامة، وتاريخ مصر الاقتصادى خاصة، يقدم «حرب» عرضا لتطور الاقتصاد المصرى منذ عهد الخديو إسماعيل (1863- 1879)، مبينا ما حققه الاقتصاد من نمو ذهبت جل فوائده للشركات المالية والمصارف الأجنبية المهيمنة على الاقتصاد المصرى، حتى بلغ الاقتصاد الوطنى ذروة الأزمة التى لخصها فى مجموعة الجداول، التى ختم بها الكتاب عن الديون العقارية، وحركة الصادرات والورادات، التى تكشف فقدان التوازن، وتعبر عن الخلل الذى أصاب الاقتصاد المصرى.
 
وبرز دفاعه عن الهوية، فى كتابه: «تربية المرأة والحجاب»، فرسخ طلعت حرب لفكرة أن الناس يرفضون أفكار قاسم أمين، لأن رفع الحجاب والاختلاط أمنية تتمناها أوروبا منذ قديم الأزل لهزيمة مصر من خلال تحرر نسائها، وتابع طلعت حرب فى كتابه، قائلا: «أسمينا الكتاب تربية المرأة والحجاب، وهو اسم كنا نتمنى أن يجعله حضرة قاسم بك أمين عنوانا لكتابه، فإنه أليق من اسم تحرير المرأة»، وساند «حرب» فى خصومته لقاسم، الزعيم مصطفى كامل، حيث أثنى عليه فى مقال له فى جريدة اللواء عام 1900.
 
الجسد مات وبقيت الرحلة
 
تقديرا لمجهودات «أبو الاقتصاد المصرى»، منحه الملك فؤاد الأول لقب باشا عام 1931، عقب افتتاح شركة الغزل والنسيج، وأهداه ملك السعودية، عبد العزيز آل سعود، كسوة باب الكعبة عام 1937 تقديرا لما أقامه من مشروعات تنموية بالمملكة.
 
ومع بوادر اندلاع حرب عالمية ثانية، بدأ بنك مصر يتأثر ماليا جراء سحب المودعين أموالهم منه، ومن بينهم صندوق التوفير الحكومى، وحاول طلعت حرب وقتئذ إقناع وزير المالية بإعادة الودائع الحكومية غير أن محاولاته باءت بالفشل، بسبب تعنت رئيس الوزراء على ماهر، بسبب موقفه الموالى لرئيس الوزراء الأسبق مصطفى النحاس باشا.
 
وفى محاولة لإنقاذ بنك مصر من الإفلاس، اشترط رئيس الوزراء، تقديم حرب استقالته وسرعان ما استجاب طلعت حرب لتنفيذ هذا الشرط، من أجل الإبقاء على حلمه، وهكذا انتهت فترته مع أول بنك وطنى للبلاد عام 1939، واختار البقاء فى قرية العنانية بمحافظة دمياط، ليقضى فيها ما تبقى من أيامه، وكأنه منفى اختيارى حتى توفى فى 13 أغسطس 1941.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق