نجوم في القلوب عالقة: محمد نوح.. مدد يا بلدنا مدد
السبت، 05 أغسطس 2023 07:00 ممحمد الشرقاوي
«موتسارت العرب» ترك قلبه على كورنيش المعادي.. وسرقه «جاهين».. وفشل السحاب في مواراة ألحانه
ما من مرة غنى "موتسارت العرب" إلا وسمع المصريون وقع دقات قلبه في الألحان، تضبطها، تزيدها صدقًا، جمالًا، روحًا، فعبر سهلاً بـ"أنا بهواك ومفيش في روحي وقلبي سواك"، بين ستارة "مرسوم عليها العصفورتين"، دون أن يزعجهما.
مضى صاحب "النهار" وحيداً يشدو في بـ"بحبك يا حياة"، رغم الحزن الذي سرق قلبه الصغير، ثم اشتد عوده فصرخ بـ"أديني قولت آه"، ليتغزل في "يا عصفورين"، ويعاتب بـ" الحبيب لما هجرني"، ويستجدي بـ"لا تنسانا"، ويتدلل: "دلعو يا دلعو والحب محدش منعو".
شيال الحمول الصغير، اعتاد كتفه حمل الآسية، فوجد نفسه مجبراً على شد "حيل" بلد بأكمله، معلقاً آماله بـ"الله حي"، عسى أن "يروق الحال"، فيعود لمحبوبته ويناديها "حبيبتي يا حبيبتي": "إن كان في أرضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولَد".
"بُكره الوليد جاي من بعيد".. تعلق قلب المحب بحبيبته حتى أنهكه الحب ولم يتركها، واسمع منه "يا بلدنا قومي واحضنيه.. ده معاه بشاير ألف عيد"، لتدرك كم صدق النغمات، وتكمل أنت: "مدد .. مدد .. مدد".
فرش الصادق "السكة" بالأمل، ممزقاً "تُوب الخضوع"، فبقيت ألحانه وأغانيه، رغم سنوات الفراق، لكن لا أجد ما أرثيه به أفضل من: "يا قمر قلبي بحبك.. أه بحبك.. وانت ليه تهوى الغياب".
حجب السحاب "روح" محمد نوح قبل 11 عاماً، في يوم 5 أغسطس 2012، لكن لم يحجب ألحانه وأغانيه، فأرض الوطن تحفظ جسد ذلك الذي غنا لها، حتى اشتد عزمها واستعادت عافيتها.
صباح الخير يا عم نوح
أسس نوح متعدد المواهب "فرقة النهار"، لتشرق بها شمس نضرة على الغناء المصري، فذلك الحاصل على دبلوم معهد الموسيقى العربية، درس تأليف الموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية جامعة ستامفورد، وعلم تلاميذه في معهدي الموسيقى العربية والسينما.
بدأت مسيرة "نوح" الفنية عبر المسرح الغنائي، واشتهر من خلال مسرحية سيد درويش عام 1966، غير أنه أتقن العزف على عدد من الآلات الموسيقية فتراقصت أنامله على "البيانو"، وانحنت له أوتار "العود" احترامًا، وانصاع له "الكمان" تقديراً، وغنى
له "الناي" فرحًا وحزينًا.
"هالله.. هالله.. هالله".. أظن والده فرح بيه يوم ولد في 1 يناير 1937، بمدينة "طنطا"، لكن رحل مبكراً دون أن يكمل فرحه والفتى ابن الـ 18 ربيعاً، ليحمل مسؤولية إخوته وليكمل رحلة بدأت بكلية التجارة جامعة الإسكندرية.
في مسارات عدة، أكمل "ضحاك السن" رحلته ملحناً ومخرجاً وممثلاً، فلحن لنجاح سلام وعلى الحجار ومحمد الحلو ومحمد ثروت وعفاف راضى، فألف وصور موسيقى قلب جريء (2002)، والمهاجر (1994)، وأجدع ناس (1993)، وكريستال (1993)، ومرسيدس (1993)، وقانون إيكا (1991)، وقبضة الهلالي (1991)، ومعركة النقيب نادية (1990)، والمزيكا في خطر (1976)، وإسكندرية كمان وكمان (1989) قبضة الهلالي (1991) والسجين 79 (1992).
صاحب الطلة ظهر في عدد من الأعمال السينمائية، منها: "الزوجة الثانية" و"شباب فى العاصفة" و"السيد البلطى" وتولى إخراج عمل سينمائي بعنوان "رحلة العائلة المقدسة".
ربنا بيحبك يا نوح.. مدد
"لو شعرك شاب أو لبسك داب مسير الفرح يدق الباب".. كللت رحلة "نوح" بتقدير ونجاح، فحصل على أكثر من جائزة، منها جائزة الجمعية المصرية لفن السينما سنة 1990، جائزة الجمعية المصرية لفن السينمائية 1991، جائزة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي سنة 1991، وجائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة سنة 1991.
وكان من بين نجاحات الرحلة والتي اعتبرها نوح أحد أهم إنجازاته، أن كوّن فرقة "النهار" من ولده وابنتيه، ناهيك عن وقوفه على خشبة المسرح ممثلاً في "سحلب"، و"أنت اللي قتلت الوحش" قصة علي سالم (1967)، ودرامياً في مسلسل الرقم المجهول (1969)، ووضع الموسيقى الأشهر لمسلسلي ألف ليلة وليلة (1992)، وثمن الخوف (1989).
رحلة نوح تجسد فيها المدد، فمدد التي غناها، لها حكاية فمع بداية حرب أكتوبر 1973، حينما أرادت الفنانة سميحة أيوب، مدير المسرح الحديث -آنذاك- تقديم عمل مسرحي غنائي، طلبت من نوح والمخرج عبد الغفار عودة، والشاعر نبيل بدران، مسرحية غنائية في أسرع وقت ممكن، وبالفعل خرجت مسرحية غنائية خلال 38 ساعة، وكانت أبرز أغنياتها "مدد مدد.. شدي حيلك يابلد"، التي كانت مع محمد نوح قبل ذلك الوقت بفترة، حينما قابل كاتبها الشاعر إبراهيم رضوان على أحد المقاهي، وأعجب بكلمات الأغنية، وحينما جاءت الفرصة، قرر نوح أن يقدمها ضمن أغاني المسرحية التي طلبتها سميحة أيوب، وتفاعلت الجماهير مع الأغنية بشكل كبير، ولاسم أول مسرحية تساند الجنود على الجبهة، وكانت تعرض وقتها، على خشبة مسرح الجمهورية.
إبراهيم رضوان، كتبها قبل سنوات من غناء نوح لها أثناء حرب 73، حيث كتبها بعد هزيمة 1967، وكان يبلغ من العمر 14 عاما، ووقتها تسببت تلك الأغنية لرضوان في الكثير من المآسي، وتم سجنه أكثر من مرة بسببها، ولكنها حينما قدمها محمد نوح في 73، كانت الأغنية الرسمية لمساندة الجنود وقت الحرب، وكان عمره وقتها 17 عاما، وانتشرت الأغنية وحققت نجاحا كبيرا ومازال يرددها المصريون كنشيد وطني بجوار "بلادي".
الحب والأصدقاء وجهان لحياة موتسارت العرب
"ياللي عليك العين ادخل عيوني ارتاح".. صدق "نوح" في حبه، لكنه لم يقبل أن يكون هذا الحب حجر عثرة في طريق فتاته "سحر".. وفق حوار لـ"بنت أبيها" أجراه الصحفي خيري شلبي، ونشرته صحيفة الوفد قبل 6 أعوام.
سحر -التى لم يتجاوز عمرها 6 سنوات- كانت شاهدة على تضحية أبيها بحبه الأقوى لأجل عينها، فالرجل صاحب الشعر الأبيض لم تستمر زيجته الأولى، وانفصل ليعود بعدها لحبيبته الأولى التي انتظرته لسنوات لم تتزوج، وأثناء طريقهما وبرفقتهم "الفتاة" نحو ضاحية حلوان جنوب القاهرة، وتحديداً في منتصف الستينيات.
بحسب ما حكاه خيري على لسان سحر، دار حديث بين نوح والمرأة التي أحبته وتوترت الأجواء بعدما طالبته بترك ابنته مع أمها، تقول سحر: "قال لحبيبته التى تجلس بجواره بحدة: تقولين إن «سحر» ابنتى مكانها عند أمها؟ قالت: نعم.. ثم واصلت كلامها: حتى ننعم بحبنا، رد: ولكن والدتها ستتزوج! ردت: عادى..! تعيش مع زوج أمها!.. بعدها فتح الباب الأمامى.. وقال لها: أظن أن بيت أبيك على مقربة من هنا؟ قالت نعم: قال لها: إذن تفضلى اذهبى إلى بيت أهلك، فلست أنا الأب الذى يلقى بابنته من أجل حبيبته، ولست أنتِ التى تستحقين أن تكونِ حبيبتى". عاد نوح للمقعد الخلفى، وضم ابنته إلى صدره وبكى بكاء شديداً ثم نقلها لتجلس بجواره.
وذلك صلاح جاهين الذي رحل سارقاً معه قلب نوح، جمعت بينهما مواقف عدة، فحكى نوح في حواره لوائل السمري بجريدة اليوم السابع عن واقعة بينهما لم ينساها، قائلا: كنت قاعد أنا وصلاح جاهين نتفرج على مسرحية "الشخص" للرحبانية فقال لى صلاح: إيه رأيك فى المسرحية فقلت: عظيمة طبعا، فقال: إحنا ليه مانعملش مسرحيات زى كده؟ هو إحنا ناقصين إيد ولا ناقصين مخ؟! فقلت له: علشان نعمل مسرحية زى دى لازم نتفرغ تماما لها، فقال دامعاً: أنا مش رايح المجلة من بكره ويللا نتفرغ، وذهبنا إلى أمريكا سويا نتفسح ونذهب إلى المسارح ونعزف ونؤلف الموسيقى، وفى يوم كنا نتفرج مسرحية عرايس "مابت شو" زى الأطفال وكان شكل العرائس جميل وألوانها مبهجة.
وتابع نوح: "وفى اليوم التالى استيقظت لأتدرب على البيانو وفوجئت بجاهين وهو يدخل علىّ متجهم الوجه وعينه حمرا زى الدم، وصدر جلبابه مبتل بالمياه، فبادرنى قائلا: عندك قهوة؟ فصببت له كوبا وسألته: مالك يا صلاح؟ فقال: مافيش، فقلت له أمال ليه صدرك مبلول؟ فقال: عرق.. أصلى كنت نايم على بطنى، وحينما ألححت عليه فى السؤال قال دامعاً: احنا فضلنا نربى أحلامنا ونلونها ونشقى عشان نحافظ عليها لحد ما عملناها فرافير وعصافير وعرايس ولوناها بالألون المبهجة، وبقينا نجرى من الفرح ونقول هييييه أحلامنا أهه.. هيه أحلامنا أهه، فجه الراجل اللى اسمه عبدالناصر ده وحط المدفع الرشاش فى ضهرنا وقالنا: هاتوا أحلامكو دى، فاديناله أحلامنا، أخد أحلامنا منا وجرى، جرينا وراه وقولناله هات أحلامنا يا ناصر هات أحلامنا يا زعيم لكنه فضل يجرى واحنا نجرى وراه وورا أحلامنا، هو يبعد وأحلامنا تبعد فنجرى وراه أكتر وفضلنا نجرى نجرى نجرى لحد لما لقينا عبدالناصر بيرمى أحلامنا فى الزبالة، خدته فى حضنى فبكى وبكى وظل يقول.. عبدالناصر رمى أحلامنا فى الزبالة، عبدالناصر رمى أحلامنا فى الزبالة".
ورثى نوح "جاهين"، قائلاً: "الله يرحمك يا عزيز عينى يا صلاح.. يا عزيز عينى يا صلاح.. فضلنا نألف موسيقى وأشعارا إلى أن انتهينا من مسرحية انقلاب التى عرضناها على مسرح جلال الشرقاوى، وفى هذه المسرحية يدين جاهين نفسه وجيله وكل من آمن بحلم استغلته السلطة ثم غررت بصاحبه، وكان ناقصنى كوبليه النهاية فاتصلت لأطلب الكوبليه، فقال اكتب يا نوح وأنا هامليك وملاّنى "يا الله يا الله أدركنا يا الله أغثنا يا الله" وكانت هذه آخر أشعاره، بعدها كلمت صلاح فى البيت لكى أخبره بأنى انتهيت من التلحين فلم يرد أحد، وظللت أكلمه على أمل أن يرد، حتى وجدت فى الأهرام نبأ وفاته.