حكم بيع القمح فى السوق السوداء لاستخدامه علف للحيوان.. الإفتاء تجيب
الأربعاء، 26 يوليو 2023 09:00 ممنال القاضي
حثت دار الافتاء على عدم إستغلال ظروف إحتياج الناس ، ما حكم بيع القمح في السوق السوداء لإستخدامه بدلًا من العلف الحيواني؟
الجواب
يُمنَعُ شرعًا، ويُجرَّم قانونًا بَيْعُ محصول القمح المحلي لموسم الحصاد المصري في السوق السوداء لاستخدامه في العلف الحيواني أو كبديلٍ له؛ لأن فيه مخالفةً لقرار ولي الأمر في هذا الشأن، ولما فيه من تضييقٍ على الناس؛ حيث يؤدي ذلك إلى قِلَّةِ المخزون الإستراتيجي مِن القمح، مما يسبب في تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بل قد يؤدي إلى العجز عن توفير الدعم اللازم من الأقوات للمستحقين، فيتضرر المواطن ويتأذى في أهم حاجاته وهي قوته وغذاؤه.
وقد جاء قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية رقم (٦٧) لسنة ٢٠٢٣م بشأن استلام القمح المحلي وتنظيم تداوُلِهِ والتعامل عليه، وحظر استخدامه أو حيازته بغرض الاستخدام في مكونات الأعلاف.
دعوة الإسلام إلى التعاون بين الناس
اقتضَت حكمةُ الباري سبحانه وتعالى أن تقُوم حياةُ بني الإنسان على الاجتماع والتعاون فيما بينهم، فالإنسان وَحدَه لا يقدر على تلبية كلِّ حاجاته دون الاحتياج إلى غيره؛ حيث يفتقر دائمًا إلى غيره في مَأكله، ومَشربه، ومَسكنه، ومَلبسه، وسائر شؤونه، وهذا هو معنى كونِ الإنسان مدنيًّا بطبعِه.
وإلى هذا المعنى يشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد الإمام البخاري: «وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ».
وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما.
قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 252، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وفيه: تفضيل الاجتماع على الانفراد، ومدح الاتصال على الانفصال، فإن البنيان إذا تفاصَل بَطل، وإذا اتصَل ثَبت الانتفاع به بكلِّ ما يراد منه] اهـ.
وقال الراغب الأصفهاني في "الذريعة إلى مكارم الشريعة" (ص: 265، ط. دار السلام): [اعلم أنه لما صَعُبَ على كلِّ أحدٍ أن يُحَصِّلَ لنفْسه أدنى ما يحتاج إليه إلَّا بمعاونةِ غيرِه له -فإنَّ لقمةَ الطعامِ لو عَدَدْنَا تعب تحصيلها من حين الزرع إلى حين الطحن والخبز وصناع آلاتها لصعب حصره- احتاج الناسُ أنْ يجتمعوا فِرْقَةً فِرْقَةً، متظاهِرِين متعاوِنِين، ولهذا قيل: الإنسانُ مدنيٌّ بالطبع، أي: أنه لا يمكن التَّفَرُّدُ عن الجماعة بِعَيْشِهِ، بل يَفْتَقِرُ بعضهم إلى بعض في مصالح الدين والدنيا] اهـ.
وقال الإمام عَضُدُ الدين الْإِيجِيُّ في "المواقف" (3/ 336-337، ط. دار الجيل): [وإنما كان التعاون ضروريًّا لهذا النوع مِن حيث إنه لا يَسْتَقِلُّ واحدٌ منهم بما يحتاج إليه في معاشه مِن مَأكله، ومَشربه، ومَلبسه، دون مشاركةٍ مِن أبناء جِنسه في:
المعاملات: وهو أنْ يعمل كلُّ واحدٍ لآخَر مثلَ ما يَعمَلُه الآخَر له.
والمعاوضات: وهي أن يعطي كلُّ واحدٍ صاحبَه مِن عمله بإزاء ما يؤخَذ منه مِن عمله، ألَا ترى أنه لو انفرد إنسانٌ وَحدَه لم يتيسر أو لم تَحسُن معيشتُه؟ بل لا بد له مِن أن يكون معه آخَرون مِن بني نوعه؛ حتى يَخْبِزَ هذا لذلك، ويَطْحَنَ ذاك لهذا، ويَزْرَعَ لهما ثالثٌ، وهكذا، فإذا اجتَمَعوا على هذا الوَجْهِ صار أمرُهم مَكْفِيًّا، ولذلك قيل: الإنسانُ مدنيٌّ بالطبع، فإنَّ الـتَّمَدُّنَ هو هذا الاجتماع] اهـ.
وجوب طاعة ولي الأمر والأدلة على ذلك
لَمَّا كانت حياة الإنسان لا تَسْتَقِرُّ إلا بهذا النظام مِن الاجتماع والتعاون فيما بينهم وخدمة بعضهم البعض، لَزِمَ مِن ذلك وُجودُ مَرجِعٍ للناس يأتمرون بأمره وينتَهُون بِنَهْيِه، وهو وَلِيُّ الأَمْر؛ رفعًا للنزاع والشقاق بينهم، وإلا عَمَّت الفوضى، واختَلَّ النظامُ العامُّ، ودَخَلَ على الناس فسادٌ عظيمٌ في دِينِهم ودُنياهم، وعَمَّ الهرج، وضاعت الحقوق.
قال حجة الإسلام الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية): [الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطانٍ مُطَاعٍ، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإنَّ ذلك لو دام ولم يُتَدَارَكْ بِنَصْبِ سلطانٍ آخَرَ مُطَاعٍ دام الهرج، وعَمَّ السيف، وشمل القحط، وهلكت المواشي، وبطلت الصناعات، وكان كلُّ مَن غَلَبَ سَلَبَ، ولم يتفرغ أحدٌ للعبادة والعِلم إنْ بَقِيَ حَيًّا، والأكثرون يَهلِكون تحت ظِلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان تَوأمان، ولهذا قيل: الدِّين أُسٌّ والسلطان حارس، وما لا أُسَّ له فَمَهْدُومٌ، وما لا حارس له فَضَائِعٌ] اهـ.
ولكي يتمكن وليُّ الأمر مِن القيام بدَوره؛ أوجَب اللهُ طاعتَه؛ حيث في طاعته اجتماعُ الكلمة، وانتظامُ المعاش، وتحقيقُ مصالِـحِ العباد في أنفسهم وأموالهم ودِينهم؛ قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» متفقٌ عليه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج الستة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ عَلَى الْـمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ».
وقد أجمع الفقهاء على أنَّ طاعة وليِّ الأمر فيما يأمر به واجبةٌ ولو كان فيما يُكرَه أو يُتَرَدَّد في صحته -ما لم يكن ذلك معصيةً بالإجماع أو كفًرا بواحًا-؛ لأن الأمر بطاعته ثابتٌ بنَصٍّ قطعيٍّ، فلا يدفعه تردُّدٌ أو كراهةٌ، ولأنَّ مفسدة معصيته أشدُّ مِن مفسدة طاعته لو كان مخطئًا.
قال الإمام ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 126، ط. دار الكتب العلمية): [وَاتَّفَقُوا أنَّ الإمام الْوَاجِب إمامته: فإن طَاعَته فِي كلِّ مَا أَمر مَا لم يكن معصيةً فرضٌ، والقتال دونه فرضٌ، وخِدمته فيما أَمر به واجبة، وأحكامه وأحكام مَن وَلَّى نافذة، وعَزْله مَن عزَل نافذ] اهـ.
حدود ولي الأمر في تقييد المباح
لَمَّا كانت مصالح العباد في معاشهم ومعادهم لا تتحقق إلا بالتكامل والتعاون بينهم وبين مَن يَلُونَ أُمورَهم، فإنَّ وليَّ الأمر بما منحه الله من السلطة وما يتبعها من القدرة على الاطلاع على خفايا الأمور وظواهرها، وما يصلح فيها وما يفسدها، أباح له الشرعُ سَنَّ القوانين ووضع الضوابط وإصدار القرارات، إلا أنه قيَّد ذلك كله بالمصلحة، فالقاعدة العامة في تصرفات وليِّ الأمر "أنها منوطةٌ بالمصلحة"؛ كما قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 121، ط. دار الكتب العلمية)، ثم قال: [هذه القاعدة نَصَّ عليها الشافعي، وقال: "مَنْزِلَةُ الإمام مِنَ الرَّعِيَّةِ مَنْزِلَةُ الوليِّ مِنَ اليتيم"، وأصلُ ذلك: ما أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" قال: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: "إني أنزلتُ نفْسي مِن مال الله بمَنْزِلَةِ والِي اليتيم، إِنِ احتجتُ أخذتُ منه، فإذا أيْسَرْتُ رَدَدْتُهُ، فإِنِ استَغْنَيْتُ استَعْفَفْتُ"] اهـ.
والمراد بالمصلحة هنا: المصلحة الشرعية المعتبرة أو المرسلة بضوابطها، لا الملغاة.
والمصلحةُ المنوطُ بِوَلِيِّ الأمر القيامُ بها تكون لعُموم مَن تحته لا لفرْدٍ بعينه؛ ولذا وجب على وليِّ الأمر -وكذا نُوَّابُهُ- قَصْدُ مصلحة عموم المسلمين، وتقديمُ المصالح الأخروية على الدنيوية، بما أُسنِدَ إليه مِن أمرِ رعاية شؤون الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
والأصل في البيع والشراء أنهما مُباحان لا إيجاب على المكلف فيهما؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، وذلك يقتضي أن الإنسان حرٌّ فيما يبيعُه أو يشتريه، إلا إذا كان شيئًا محرَّمًا، فالأصل أنه يحرم التعامل فيه بالبيع أو الشراء.
فإذا اقتضَت المصلحة العامة تقييد هذا المباح في زمنٍ معيَّنٍ؛ لدفع الضرر عن عموم الناس، وتحقيق المصالح لهم في أمور معاشهم، كان لوليِّ الأمر أن يُقيده؛ بمعنى: أنَّ له الحقَّ في تقييد مَن يكون له البيع أو الشراء، ثم إلزام الناس بهذا التقييد بمقتضى الصلاحية التي أعطاها له الشرع، وهذا مِن قَبيل السياسة الشرعية التي تُقَدَّم فيها المصلحةُ العامة على المصلحة الخاصة.
يقول الشيخ علي الخفيف في "المِلْكِيَّة في الشريعة الإسلامية" (ص: 90، ط. دار الفكر العربي): [لِوَلِيِّ الأمر في دائرة المباح أنْ يوجِبَ على الناس مِنْهُ ما تَسْتَوْجِبُ مَصلحتُهُم العامةُ إيجابَهُ عليهم لِدَفْعِ ضررٍ عنهم وجَلْبِ منفعةٍ لهم، وأنْ يَحظُر عليهم مِنْهُ ما تقتضي مصلحتُهُم العامةُ حَظْرَهُ عليهم دَفْعًا لضرره عنهم، وإذا فعل ذلك كانت طاعتُه فيما أوجَب مِن ذلك وفيما نَهى عنه واجبةً ظاهرًا وباطنًا] اهـ.
بل إذا تعلق الأمر بطعام الناس وأقواتِهِم وحاجَاتِهِم الضرورية التي لا غنى لهم عنها، وكان السبيل إلى دفع الضرر عنهم في ذلك هو تقييد حركة البيع والشراء في شيء منها، كان التقييدُ حينئذٍ آكَدَ وأَوْلَى؛ لأنَّ طعام الناس وأقواتَهُم مِن أهَمِّ الضروريات التي يجب الحرص عليها ويَحرم التهاون بها، إذ هي عصب الحياة التي لا تستقيم إلا بها، وفي الحفاظ عليها حياةٌ للنفوس، وفي تضييعها تضييعٌ للنفوس، وحفظ النفس من أوجب الواجبات، بل هو أسمى المقاصد التي جاء الشرع الشريف بحفظها، ولهذا وجب على وليِّ الأمر أن يتخذ مِنَ المقوِّمات والاحترازات ما يضمن به الحفاظ على أقوات رَعِيَّتِهِ؛ إذ قد تقرر في علم الأصول أنَّ "ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ"؛ كما في "المحصول" للإمام الرَّازِيِّ (5/ 289، مؤسسة الرسالة)، و"الإحكام" للإمام الآمِدِيِّ (1/ 117، ط. المكتب الإسلامي)، و"قواعد الأحكام" لسلطان العلماء العِزِّ بن عبد السلام (2/ 204، ط. مكتبة الكليات الأزهرية)، و"الفروق" لشهاب الدين القَرَافِيِّ (2/ 44، ط. عالم الكتب).
الأدلة على جواز تقييد ولي الأمر المباح تحقيقًا للمصلحة
ولأهمية هذا المقصد النبيل، فقد حرص النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على ترسيخه وبيانه لأُمَّتِهِ تمَام البيان، فكان صلى الله عليه وآله وسلم أوَّلَ مَن قيَّد المباح لأَجْلِهِ، وذلك أنه لَمَّا دخل بعضُ الفقراء المدينةَ أيام الأضحى، نَهَى عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحي فوق ثلاثة أيامٍ في هذا العام بخصوصه حتى يُتصدق به؛ فَيَطْعَمَ الناسُ ويُكفَى المحتاجون.
فعن عبد الله بن واقِدٍ رضي الله عنه قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ»، قال عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما: فذكرتُ ذلك لِعَمْرَةَ، فقالت: صَدَقَ، سمعتُ عائشة رضي الله عنها تقول: دَفَّ أهلُ أبياتٍ مِن أهل البادية حَضْرَةَ الأضحى زَمَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ»، فلَمَّا كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقِيَة مِن ضحاياهم، ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه". والدَّافَّة: الجماعة مِن الناس، والمقصود بهم في الحديث الشريف: الفقراء مِن أهل البادية الذِين دَخلوا المدينةَ.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أنه كانت له عضد مِن نخل في حائطِ رجلٍ مِن الأنصار، قال: فكان سمرة يدخل إلى نَخْلِهِ فيتأذى به ويَشُقُّ عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يُناقِلَهُ فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: «فَهَبْهُ لَهُ وَلَكَ كَذَا وَكَذَا» أَمْرًا رَغَّبَهُ فِيهِ، فَأَبَى، فَقَالَ: «أَنْتَ مُضَارٌّ»، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: «اذْهَبْ فَاقْلَعْ نَخْلَهُ» أخرجه الإمامان: أبو داود في "سننه" واللفظ له، والبيهقي في "السنن الكبرى"، و"معرفة السنن والآثار".
وهذا الحديث أصلٌ في جواز تَدَخُّل وليِّ الأمر في تقييد حرية المالك في التصرف في ملكه إذا رأى المصلحة في ذلك.
وعلى هذا النَّهْج مَضَى أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تنظيماته الإدارية لضبط حركة السوق؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يأتي مَجْزَرَةَ الزُّبَيْر بن العوام رضي الله عنه بالبقيع، ولم يكن بالمدينة مجزرةٌ غيرها، فيأتي معه بالدِّرَّة، فإذا رأى رجلًا اشترى لحمًا يومين متتابعين ضَرَبَهُ بالدِّرَّة وقال: "أَلَا طَوَيْتَ بَطْنَكَ لِجَارِكَ وَابْنِ عَمِّكَ" أخرجه الإمامان: ابنُ كثير في "مسند الفاروق" من طريق الحافظ ابن أبي الدنيا، والصالِحِيُّ في "مَحْض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب".
ولَمَّا كان القمحُ أَهَمَّ أقوات المصريين، حَظِيَ أمرُ إدارته بعنايةٍ خاصةٍ مِمَّن وَلُوا مصر على مَرِّ العصور وتعاقُب الدهور، بل لأهميته قيَّض المولى سبحانه وتعالى لأهل مصر نبيًّا مِن أنبيائه لإدارة شأنه على وجه الخصوص، وهو نَبِيُّ الله يوسف عليه السلام، فوضع لإدارته نظامًا مُحْكَمًا، وقانونًا مُرَتَّبًا، مِن بداية الحرث والغرس، وحتى الحصاد والتخزين والاستهلاك؛ قال تعالى على لسان نَبِيِّهِ يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 47‑49].
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (18/ 465، ط. دار إحياء التراث العربي): [اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال: ﴿تَزْرَعُونَ﴾، وهو خبرٌ بمعنى الأمر.. وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر، ويخرج الأمر في صورة الخبر، للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وُجِدَ، فهو يُخْبِرُ عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر: قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾] اهـ.
ومعلومٌ أن تأويل نبي الله يوسف عليه السلام رؤيا الملِك ليس اجتهادًا منه، وإنما هو مِن عِلم الله الذي تَلَقَّاه بالوحي، دَلَّ على ذلك قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾؛ حيث فَصَّلَ الحالَ وَبَيَّنَهُ في السَّنَة التي سوف تأتي بَعد السَّبْع السِّنِينَ الْعِجَاف، ولم يكن ذلك في رؤيا الملِك، فدلَّ على أنه عَلِمَه مِن جهة الوحي.
قال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (2/ 477، ط. دار الكتاب العربي): [ثم بشَّرهم بَعدَ الفراغ مِن تأويل الرؤيا بأنَّ العام الثامن يجيءُ مبارَكًا خَصِيبًا كثيرَ الخَيْرِ غَزِيرَ النِّعَمِ، وذلك مِن جهة الوحي، وعن قتادة: "زَادَهُ اللهُ عِلْمَ سَنَةٍ".
فإن قلتَ: معلومٌ أنَّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لَم توصف بالانتهاء، فَلِمَ قلتَ: إنَّ علمَ ذلك من جهة الوحي؟ قلتُ: ذلك معلومٌ عِلْمًا مُطلقًا لا مُفَصَّلًا، وقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ تفصيلٌ لحالِ العامِ، وذلك لا يُعلم إلا بالوحي] اهـ.
وما كان هذا الادخارُ للقمح إلا تدبيرًا ربانيًّا مُحكَمًا، وتمهيدًا لتشريع ادخار الأقوات للتموين، أوحى به الحق سبحانه وتعالى إلى نَبِيِّهِ يوسفَ عليه السلام، كي يُعَلِّمَهُ الناسَ ويُرشدَهم إليه؛ فتنتظم بذلك أمور معاشهم.
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (3/ 493): [جميع أقاصيص الأنبياء تنبيهٌ وإرشاد] اهـ.
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 286، ط. الدار التونسية): [وقد مَزَجَ تعبيره بإرشادٍ جليلٍ لأحوال التموين والادِّخار لمصلحة الأمة، وهو مَنَامٌ حِكْمَتُهُ كانت رؤيا الملِك لطفًا مِن الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السلام، ووحيًا أوحاه الله إلى يوسف عليه السلام بواسطة رؤيا الملك، كما أوحى إلى سليمان عليه السلام بواسطة الطير، ولعل الملك اسْتَعَدَّ لِلصَّلَاحِ وَالْإِيمَانِ، وكان ما أشار به يوسف عليه السلام على الملك من الادخار تمهيدًا لشرع ادِّخار الأقوات للتموين، كما كان الوفاءُ في الكيل والميزان ابتداءَ دعوةِ شعيبٍ عليه السلام] اهـ.
وهذا التصرُّفُ مِن نبي الله يوسف عليه السلام "كان واجبًا عليه لِوُجُوهٍ:
الأول: أنه كان رسولًا حقًّا مِن الله تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان.
والثاني: وهو أنه عليه السلام عَلِمَ بالوحي أنه سيحصُل القَحطُ والضِّيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاكِ الخلقِ العظيم، فلَعَلَّهُ تعالى أمَره بأنْ يدبِّر في ذلك ويأتي بطريقٍ لِأَجْلِهِ يَقِلُّ ضَرَرُ ذلك القَحْطِ في حقِّ الخَلق.
والثالث: أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسَنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا فَنَقُول: إنه عليه السلام كان مكلَّفًا برعاية مصالح الخلق مِن هذه الوجوه، وما كان يُمْكِنُهُ رِعَايتُها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان هذا الطريقُ واجبًا عليه"؛ كما قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (18/ 473).
فلَمَّا التزموا أَمْرَهُ وانْصَاعُوا لحُكمِهِ وأَنْفَذوا قراراته في إدارة شأن القمح، نَجَا العِبَاد، وَعَمَّ خيرُ مصر على البلاد، ثم ختم الحقُّ سبحانه وتعالى السورة بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]، وفي ذلك حكمةٌ بديعةٌ وإشارةٌ لطيفةٌ لأولي الألباب، وكأن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى أخذ العبرة من القصة وما فيها من آياتٍ وحِكَم، ومن ذلك أنَّ صلاح أقوات الرعية يكمن في الالتزام بما وضعه وليُّ الأمر من قوانين وقرارات لضمان استقرار الدولة وتوفير احتياجات أفرادها.
مدى جواز تدخل ولي الأمر من أجل منع البيع والشراء وقت الأزمات
قرر الفقهاء حقَّ وليِّ الأمر في مَنْع الطَّحَّانِين مِن شراء القمح جملةً بقَصْد طَحْنِه وبَيْعِهِ للناس دقيقًا تَجزئةً طلبًا للرِّبح وتيسيرًا على المستهلِكِين للاستعمال الفردي إذا كان هذا الفِعل سوف يؤدي إلى غُلُوِّ سِعره على عامة الناس، أو عدمِ حصول الكفاية في المِرفق الذي هو لعموم الناس كالخبز مثلًا.
قال الإمام ابن رشد في "البيان والتحصيل" (9/ 322، ط. دار الغرب الإسلامي): [وسئل مالكٌ عن الطَّحَّانين يَشترون الطعام فيُغْلُون بذلك أسعارَ الناس، قال: أرى أنَّ كلَّ ما أَضَرَّ بالناس في أسعارهم أنْ يُمْنَعَهُ الناسُ، فإنْ أَضَرَّ ذلك بالناس مُنِعُوا منه. قال محمد بن رشد في شراء الطحانين الطعام جملةً مِن الجُلَّاب، وبَيْعِهِ على أيديهم دقيقًا رفقًا بعامة الناس لِمَشَقَّةِ الطحين عليهم إذا اشترَوُا القمحَ: فإنْ كان ذلك يُغْلِي عليهم الأسعارَ، فالواجبُ أنْ يَنظُر السلطانُ في ذلك، فإن كان لا يَفِي المرفقَ الذي للعامة في ذلك بما يُغْلِيه مِن أسعارهم، مَنَعَ مِن ذلك، وإن كان يَفِي به أو يَزيدُ عليه فيما يراه باجتهاده، لم يَمْنَع مِن ذلك] اهـ.
وعلى هذا الهَدْي سار المصريون، وزخر التاريخ المصري بالتنظيمات الإدارية والإجراءات الضبطية في هذا الشأن، ومن ذلك: ما جاء في حوادث سنة (818) هجرية/ 1415 ميلادية: أنه قد حدث غلاءٌ في سعر القمح، حتى تزاحم الناس على الأفران، فـ"تصدَّى السلطان بنَفْسِهِ للنَّظَر في الأسعار، وعمل معدَّل القمح، وقد بلغ سعر الإرْدَبِّ منه أَزْيَدَ مِن ستمائة درهم إنْ وُجِدَ، والإرْدَب الشعير إلى أربعمائة درهم، فانْحَطَّ السعر لذلك قليلًا، وسَكَنَ رَوْعُ الناس؛ لِكَوْن السلطان يَنظُر في مَصالحهم"؛ كما قال جمال الدين ابن تَغْرِي بَرْدِي في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (14/ 39، ط. دار الكتب المصرية)، ثم عَقَّب بقوله: [فلهذا وأبيكَ العملُ، ولَعَلَّ اللهَ سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤيَّد ذُنوبَه بهذه الفعلة؛ فإن ذلك هو المطلوب مِن الملوك، وهو حسن النظر في أحوال رعيتهم] اهـ.
وعلى هذا الأصل العام لقواعد الشرع الشريف وهذه الإجراءات التنظيمية الْـمُتَّبَعَة على مَرِّ القرون وتعاقُب الحوادث وما سار عليه المصريون -جاء قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية رقم (٦٧) لسنة ٢٠٢٣م بشأن استلام القمح المحلي (موسم حصاد عام ۲۰۲۳م) وتنظيم تداوُلِهِ والتعامل عليه، وحظر استخدامه أو حيازته بغرض الاستخدام في مكونات الأعلاف.
حكم الشرع في بيع محصول القمح في السوق السوداء كبديل للعلف الحيواني
على ذلك يكون بيع القمح المحلي في السوق السوداء لاستخدامه في العلف الحيواني أو كبديلٍ له -أمرًا ممنوعًا شرعًا؛ لأن فيه مخالفةً لقرار ولي الأمر في هذا الشأن، ولما فيه من تضييقٍ على الناس؛ حيث يؤدي ذلك إلى قِلَّةِ المخزون الإستراتيجي مِن القمح، مما يسبب في تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بل قد يؤدي إلى العجز عن توفير الدعم اللازم من الأقوات للمستحقين، فيتضرر المواطن ويتأذى في أهم حاجاته وهي قوته وغذاؤه.
ما يجب على الإنسان وقت الأزمات والتحذير من الجشع والاستغلال
الواجب على كل مواطنٍ عند الأزمات والمحن أن يتكاتف ويتعاون مع أبناء مجتمعه، وأن يبذل ما لديه لِسَدِّ خُلَّتِهِم، لا أن يستغل حاجتهم وفاقَتَهم، فليس ذلك مِن شِيَمِ الرجال، فإنَّ معادن الرجال تظهر عند الأزمات والشدائد، وللمصريين في فِعل الأَشعَرِيِّين رضي الله عنهم مَثَلٌ أعلى؛ فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
وقوله: «أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ» أي: "فَنِيَ زادُهُم، وأصلُه مِن الرَّمْل، كأنهم لَصقُوا بالرَّمْل مِنَ القِلَّة"؛ كما قال شهاب الدين القَسْطَلَّانِيُّ في "إرشاد الساري" (4/ 283، ط. الأميرية).
فإذا غلب على بعض الناس طبْع الجَشَع واستَغَلُّوا ما يحدث للناس مِن أزماتٍ خاصة فيما يتعلق بأقواتهم، فخالفوا أمْر ولي الأمر وباعوا القمح في السوق السوداء، فإنهم بذلك قد جمعوا مِنَ الإثم أبوابًا كثيرة؛ حيث افتأتوا على ولي الأمر، وشاركوا في تفاقُمِ الأزمة، وارتفاعِ الأسعارِ، واستغلالِ حاجَةِ الناسِ، وضيَّقوا عليهم في معاشِهِم وقُوتِهِم، ويستحقون حينئذٍ المؤاخذة في الدنيا والآخرة؛ حيث ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه الأئمة: البيهقي في "السنن الكبرى"، والطيالسي وأحمد -واللفظ له- والروياني في "مسانيدهم" مِن حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
كما نصَّ قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية -السالف ذكره- في المادة الحادية عشرة منه على العقوبات المتبعة عند وقوع المخالفة لذلك.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يُمنَعُ شرعًا، ويُجرَّم قانونًا، بَيْعُ القمح المحلي في السوق السوداء لاستخدامه كبديلٍ للعلف الحيواني؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.