نجوم في القلوب عالقة: محمد رشدي.. للموال والغناء ملك
السبت، 15 يوليو 2023 06:00 ممحمد الشرقاوي
أصعب شيء أن يرميك من تحب في بحر الأشواق، فلا تعرف هل أنت غارق، أم تتمنى الغرق، تنخرك الأشواك، غير آبه بمرارة الفراق، وأن تنتظر موتك، تقول: "والله يا هوى مغرم صبابة وقالوا لي أهل الهوى غلابة".. وأغلب أهل الهوى كان "عرباوي" أحب "عدوية".
شدا مغرم الصبابة: "والله في سماه لولا الملامة لا كنت أروحله.. وأغزل نسيم الفجر ليه طرحه من الأشواق".. فسألته: أبعد كل ما أصابك من ألم تصر على البقاء، غير ملتفتاً لشقاه، وتوتره، وضغتطته، ليجيب: "وما دمت شاري.. لو كانت نغم قلبي ربابة، وأصر الهنا في طرحة تولّي.. وأبدر عشنا ياسمين وفولي".
ورغم أنه جاء معتذراً في "يا عبدالله يا أخويا سماح".. لكنه تراقص حين جاءه الغزال، وتغزل في كعبه الغالي، ونسى مواويليه، حتى عاود تمنى اللقاء في: "ميتى أشوفك يا غايب عن عيني".
منح الله "عرباوي" صوتاً عذباً، عذب به قلوب، وخفف به أحمال، انسابت مع النيل حتى صار صوت غناه محمد رشدى – هكذا وصفه الراحل الموسيقار عمار الشريعي" - فتعال نفتح الشباك، على الدنيا اللى جاية هناك، وعلى النسمة على البسمة، وسيبك من اللى عدى وراح.
فلاح معجون بحب دسوق
"أنا فلاح من دسوق وعارف يعنى إيه واحد يرتبط ببيئته".. ولد المداح محمد عبد الرحمن الراجحى "محمد رشدى"، في 22 يونيو 1928 بمدينة دسوق محافظة كفر الشيخ، حيث يمر هذا الأسبوع 95 عاماً على ميلاده.
يمر الكاتب الصحفي سعيد الشحات، في كتابه "مذكرات محمد رشدى.. موال أهل البلد غنوة"، على مراحل من حياة رشدي، ذلك الطفل الذي تعلق بأمه، وسرقه صوت "ليلى مراد"، وأسسه معاون الصحة الأستاذ محمود الدفراوي، فأتقن مخارج الصوت والعزف على العود وحفظه بعض الأدوار القديمة وعالجه من بعض الأمراض، وفريد باشا زعلوك، الذى سعى ليدرس محمد رشدى فى معهد فؤاد للموسيقى.
غذاه حفظه للقرآن كاملاً في كتّاب القرية لغوياً، وأثقل صوته، فشب في ليال "إبراهيم الدسوقي"، وشابت مسمامع أم كلثوم حين التقته في إحدى حفلاتها الغنائية بمدينة دسوق أثناء المولد. أعجبت "الست" بصوته وشجعته على دراسة الغناء والموسيقى، فأقنع والده، وقدم لمعهد فؤاد الأول للموسيقى وتخرج منه عام 1949 مع سبعة من الدارسين من بين 57 طالبًا. لكنه ظل أفندياً في عين أمه "هكذا كانت تتمناه".
صوت شدا في أرجاء القاهرة
ذلك "الصوت المصري وكأن إخناتون يغنى" – هكذا وصفه بليغ حمدي، بدأ حياته بالقاهرة فقيراً يسكن لوكاندة الفردوس، المطلة على ميدان الحسين، يحكي عنه "الشحات": "كنت انطوائيًا كافي خيري شري"، لكنه ذهب إلى بلدياته أحمد المنشاوى الذى يعمل فى مكتب محمد عبدالوهاب، وهناك رأى موسيقار الأجيال عن قرب، وقد كانت معه حكاية غريبة.
نجح في اختبار لجنة الإذاعة التي كان القصبجي من أعضائها، ونال أول اعتراف بصوته، وتقاضى راتبا يبلغ 17 جنيهاً، نظير تأليف وتلحين وأداء الأغنية الواحدة، حتى نشرت مجلة الإذاعة المصرية يوم 26 مايو 1951 صورته وتحتها تعليق: "محمد رشدي يذيع لأول مرة أغنية “ساكت وسامع ليه".
تقول تقارير إن "رشدي"، التقط كلمات أغنية "سامع وساكت ليه" عام 1951، من ورقة في "سلة الزبالة" الموجودة في مكتب الموسيقار محمد عبد الوهاب، حين كان في زيارة للقائه، وجدها ورقة مهملة في السلة فأخذها وقام بتلحينها، إلى أن جاءته الفرصة ليغنيها في حفل حضرها مسئولين في الإذاعة منهم المذيع على فايق زغلول الذى أعجب بصوته وقدمه للإذاعة، وغني أمام لجنة مكونة من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب والملحن محمد القصبجي والشاعر محمود إسماعيل أغنية سامع وساكت ليه، فأجازوه كمطرب وملحن، واتهمه عبد الوهاب بالسرقة ولما عرف انه لم يقصد سوى الغناء ضحك عبد الوهاب وعفا عنه.
يحكي كتاب "مذكرات محمد رشدى.. موال أهل البلد غنوة" عن علاقة رشدي بعبدالوهاب: يقول محمد رشدى عن هذه المرحلة "غرفت فى شارع محمد على نقابة العوالم، كنت أغنى فى أفراح عن طريقها تدبيرا للمصاريف، أما ذهابى للمنشاوى فى مكتب عبدالوهاب، فحدثت معه حاجات غريبة، عرض المنشاوى أن أنتقل إلى حجرته فى باب الشعرية، لأنه كان بينام فى المكتب، كانت حجرته فقيرة ومليانة بأكوام وأوراق فيها شعر ركيك للمنشاوي الذى يتوهم أنه شاعر ومؤلف أغانٍ، وفى النهار كنت أذهب إليه فى المكتب، لكنه طلب منى أن ألزم البوفيه، ولا أتحرك إلا فيه، ومنه بدأت أشاهد محمد عبدالوهاب، وأراقب تصرفاته، كان فى غاية الأناقة، يلبس بدلة بيضاء وطربوشا، منظم ودقيق فى مواعيده، وهذه مسألة كانت تميزه طوال حياته، كنت فى الكتب بوصفى مساعدا للمنشاوى، ينادى عبدالوهاب عليه فأجرى أنا مسرعا، يطلب فألبى".
يتابع: "سمح لي المنشاوى أن أجلس أمام مكتب الأستاذ فكنت أستمع إلى كلام الأستاذ مع ضيوفه، وأسمعه وهو بيعزف جملة موسيقية على العود، سمعت منه لحن (إنت إنت ولا انتش دارى) كلمات حسين السيد، وشاهدته وهو يلحنه مع رؤوف، ذهني، التقطه، حفظته، وغنيته فى حفلات الأفراح، التي كانت بتشركنى فيها نقابة العوالم، غنيته ولم أذكر سره، فظن من يسمعه أنه لحني، حتى جاءت المفاجأة الكبرى فى حفل بسينما راديو.. فقد غنى محمد عبدالوهاب: "أنت أنت ولا انتش دارى فى عام 1984، فقالت الصحافة (عبدالوهاب يغنى أغنية يغنيها مطرب ناشئ فى الأفراح، والمطرب لا يعرفه عبدالوهاب ولم يقابله من قبل)، بالطبع ثار عبدالوهاب وقال بأن هناك جاسوسا فى المكتب وكانت النتيجة أن طرد جميع العمال من المكتب ماعدا المنشاوى الذى قام بطرد "رشدى" من حجرته.
مأذون بلد أضاعته وهيبة
تعد أغنية "قولوا لمأذون البلد" أول أغنيات "الراجحي" التي تسببت في شهرته، حيث كان يقدم لحن شهري في الإذاعة المصرية مقابل 3 جنيهات طوال الشهر، وحين جاء دورها، رفضتها الإذاعة في 1952، فترك الإذاعة حزينًا ووقف أمام المبنى حتى قابل الرئيس الراحل أنور السادات بالصدفة، وما كان من الرئيس إلا أن سأله عن أسباب وقوفه حزينًا، فقص عليه ما حدث، فسمح له بالغناء، وكانت سبب شهرته. وفق روايات عدة.
ورغم أن هناك خلافات حول أن سبب الشهرة "تحت الشجر يا وهيبة"، فقد اعتبرها رشدي نفسه بأنها الباب السحري إلى مشروعه الغنائى فى ستينيات القرن الماضى، وكانت الأغنية من كلمات عبدالرحمن الأبنودى، ومن ألحان عبدالعظيم عبدالحق.
كانت الأبنودي بمثابة مفتاح حياة جديد لرشدي، بعد ضياع هوية اللون الغنائي، في فترة استمرت نحو 8 سنوات تعرض خلالها لحادث شهير على طريق السويس، جعله بين الحياة والموت، ظل يعانى منه لمدة عامين متواصلين، قبل أن تأتى النجاة بموال "أدهم الشرقاوى". فوصل عام 1966 إلى قمة مجده، فقد شكل مع الأبنودى وبليغ حمدى جيلا جديدا يتحرك بالأغنية إلى منطقة جديدة، معبرة بكل صدق عن العمال والفلاحين فى مصر. وفق سعيد الشحات.
مرحلة جلد الذات وضياع الهوية التي عاشها عاشق عدوية، لم تكن بمعزل عن علاقته بعبدالحليم حافظ، ومقارنة الجمهور بينهما، حتى كان الموقف الأبرز، عندما دار حوار بينه وبين عبدالحليم صرخ حليم فى نهايته: "أنا لا أشبه أحدا أنا لون لوحدى"، لكن محمد حسن الشجاعى هو الذى أشار إلى الأزمة بشكل مباشر، وطلب من رشدى أن يبحث عن نفسه وألا يكرر أحدا.
دامت لمين؟
تركيبة رائعة، جمعت بين حافظ للقرآن، ودارس للتواشيح على يد الشيخ درويش الحريري، وعازف للعود على يد منصور عوض، وصييت موالد، مفكر فني وصف الحالة الغنائية المصرية: "مصر عاشت على نوعين من الغناء، غناء فى الحوارى والغيطان، وغناء الصالونات الموجه إلى فئة معينة، وهذا النوع كان هو الرسمى، وسيد درويش استثناء لأنه غنى وهو عارف بيغنى لمين، وجاء الأبنودى ليجعل غناء الحوارى والغيطان على كل لسان".
العنفوان الذي عاشه رشدي طوال حياته، لم يكن في الغناء وحده، فقدم للسينما 6 أفلام منهم السيرك، ورد وشوك، فرقة المرح، لكنها لم تدم.. (دامت لمين.. يا مصدق الأيام، دامت لمين.. متعيش في الأوهام.. الدنيا تطلع إيه وتسوى كام).. ليغادر دنيانا يوم في 2 مايو 2005.