مفتى الجمهورية يوضح حكم مبيت الحجيج في منى ومزدلفه

الأحد، 18 يونيو 2023 02:18 م
مفتى الجمهورية يوضح حكم مبيت الحجيج في منى ومزدلفه
منال القاضي

أجاب الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية على سؤال يقول صاحبه نرجو منكم بيان الحكم الشرعي في المبيت بالمزدلفة، وهل يجب بتركه شيء؟ وما مقدار الوقت الذي يتحقق به المبيت؟ وهل يجوز للحاج أن يدفع منها إلى منى قبل منتصف الليل؟
 
الجواب
مبيت الحاج بالمزدلفة مشروعٌ على جهة كونه سُنَّةً في حقه إذا كان ذلك مُناسبًا حاله واستطاعته وتنظيم فَوْجِهِ، ولا فدية عليه في تركه، خصوصًا إذا كان صاحب عذرٍ في ذلك، ولا حرج عليه.
 
ويحصل المبيت بالمزدلفة بالمكث فيها مدةً تزيد على قدر حط الرحال وصلاة المغرب والعشاء وتناول شيء فيها من الأكل أو الشرب في أيِّ وقت من الليل دون التقيُّد بمجاوزة نصفه.
 
مشروعية مبيت الحاج بالمزدلفة
مِن المقرر أنَّ أحكام الشرع الشريف مبنيةٌ على التيسير والتخفيف؛ قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ونفوس المؤمنين تَتُوق إلى أداء فريضة الحج، إلا أنَّ المولى تبارك وتعالى قد جعل ذلك منوطًا بالاستطاعة؛ فقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].
 
قال الإمام البغوي في "معالم التنزيل" (2/ 72-73، ط. دار طيبة): [والاستطاعة نوعان: أحدهما: أن يكون مستطيعًا بنفسه، والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره. أما الاستطاعة بنفسه: أن يكون قادرًا بنفسه على الذهاب ووجد الزاد والراحلة.. أما الاستطاعة بالغير: هو أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه؛ بأن كان زَمِنًا أو به مرض غير مرجو الزوال.. لأنَّ وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة] اهـ.
 
ومِن الأمور التي اتفق الفقهاء على أنها مِن مناسك الحج: المبيت بالمزدلفة.
 
قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 134، ط. دار الفكر) في ذكر مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالوقوف بعرفة: [إذا وصلوا مزدلفة وحَلُّوا: باتوا بها، وهذا المبيت: نُسُكٌ بالإجماع] اهـ.
 
ومع اتفاق الفقهاء على أن المبيت بالمزدلفة مِن مناسك الحج، إلا أنهم اختلفوا في حكمه.
 
حكم المبيت بالمزدلفة
ذهب جمهور الفقهاء؛ مِن الحنفية، والمالكية، والشافعية في مقابل الأصح، والحنابلة في روايةٍ، إلى أنه سُنة، وأنه لا يجب على الحاج شيء بتركه إياه؛ لأن المبيت بالمزدلفة إنما شُرع للتأهب للوقوف بها، لا لذاته، ولأن المبيتَ زائدٌ على الوقوف، لكن يُسن عند الشافعية أن يهدي دمًا؛ وذلك على القول بأن المبيت سنة.
 
قال زين الدين ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 368، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لم يذكر البيتوتة بمزدلفة، وهي سُنَّةٌ؛ لا شيء عليه لو تركها، كما لو وقف بعدما أفاض الإمام قبل الشمس؛ لأن البيتوتة شُرِعت للتأهب للوقوف] اهـ.
 
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 511، ط. دار الفكر): [البيتوتة بمزدلفة: سنة مؤكدة إلى الفجر لا واجبة.. كما في "اللباب" و"شرحه"] اهـ.
 
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 332، ط. دار الفكر): [يُستحب المبيت بالمزدلفة، فإنْ تَرَكَهُ: فلا شيء عليه] اهـ.
 
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 134): [هذا المبيت نُسُكٌ بالإجماع، لكن هو واجب أو سُنة؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما.. والثاني: سُنَّةٌ. وحكى الرافعي فيه ثلاثة طرق؛ (أصحها) قولان كما ذكرنا، (والثاني) القطع بالإيجاب، (والثالث) بالاستحباب، فإن تركه أراق دمًا. فإن قلنا: المبيت واجب؛ فالدم لتركه واجب، وإلا فَسُنَّة، وعلى القولين؛ ليس بركنٍ، فلو تركه صَحَّ حجه. هذا هو الصحيح المشهور الذي نَصَّ عليه الشافعي، وقطع به جمهور الأصحاب وجماهير العلماء] اهـ.
 
وقال أيضًا (8/ 265): [ومن ترك سُنةً لم يلزمه شيء] اهـ.
 
وقال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي [ت: 682هـ] في "الشرح الكبير" (3/ 442، ط. دار الكتاب العربي): [وروي عن أحمد: أن المبيتَ بمزدلفة غير واجب] اهـ.
 
وقال أيضًا (3/ 506): [ومن ترك سُنةً فلا شيء عليه] اهـ.
 
وذهب الشافعية في الأصَحِّ، والحنابلة في المعتمد، إلى أنه واجب، وأن مَن تركه بلا عذر: فإنه يلزمه دم، وهو قول عطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، وإسحاق، وأبي عبيد.
 
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 136): [هذا الذي ذكرناه مِن وجوب الدم بترك المبيت مِن أصله إذا قلنا: المبيت واجبٌ: هو فيمن تركه بلا عذر] اهـ. ونصَّ على أن الأظهرَ في هذه الحالة هو وجوبُ الدم؛ فقال في "الروضة" (3/ 99، ط. المكتب الإسلامي): [والأظهر: وجوب الدم بترك المبيت] اهـ.
 
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "الإقناع" (1/ 257، ط. دار الفكر): [المبيت بمزدلفة: فإنه واجب على الأصح، ويجبر تركه بدم] اهـ.
 
وقال في "مغني المحتاج" (2/ 264، ط. دار الكتب العلمية): [المبيت بالمزدلفة والدفع منها، وفيما يذكر معها (ويبيتون بمزدلفة) بعد دفعهم من عرفة؛ للاتباع. رواه مسلم، وهو واجبٌ، وليس بركن على الأصح] اهـ.
 
وقال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي في "الشرح الكبير" (3/ 441): [المبيت بمزدلفة واجب؛ مَن تركه فعليه دم، هذا قول عطاء، والزهري، وقتادة، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي عبيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بات بها، وقال: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»] اهـ.
 
وذهب جماعة مِن التابعين؛ منهم: الحسن البصري، وعلقمة، والشعبي، والأسْوَد، وإبراهيم النخعي، إلى أنه ركنٌ لا يتم الحج إلا به، وهو قول أبي عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة من الشافعية؛ لقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198].
 
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 520، ط. دار هجر): [حُدِّثْتُ عن عمارٍ قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾؛ وهي: المزدلفة، وهي "جَمْعٌ"] اهـ.
 
وقال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (5/ 328، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ يدل أنَّ الحصول عند المشعر الحرام: واجب، ويكفي فيه المرور به؛ كما في عرفة، فأما الوقوف هناك: فمسنون، ورُوي عن علقمة والنخعي أنهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركنٌ؛ بمنزلة الوقوف بعرفة، وحجتهما: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾؛ وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريًحا في الكتاب، وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة، والمشعر الحرام فيه أمرٌ جزم] اهـ.
 
وعن عروة بن مُضَرِّس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» أخرجه الترمذي في "السنن"، وقال: "حديث حسن صحيح".
 
وعنه أيضًا رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَدْرَكَ جَمْعًا مَعَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا؛ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ النَّاسِ وَالْإِمَامِ؛ فَلَمْ يُدْرِكْ» أخرجه النسائي في "السنن" واللفظ له، وأبو يعلى في "المسند"، والطبراني في "المعجم الكبير".
 
قال الإمام الماوردي في "الحاوي" (4/ 177، ط. دار الكتب العلمية): [أما المبيت بمزدلفة: فنُسُكٌ، وليس بركن، وهو قول الأكثرين، وحُكِيَ عن خمسة مِن التابعين أنه: ركن في الحج لا يتم إلا به؛ منهم: الحسن، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، والأسْوَد، وعلقمة، وبه قال أبو عبد الرحمن الشافعي؛ استدلالًا بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾، وبها روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَفَ بِجَمْعٍ؛ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ؛ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ»] اهـ.
 
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ مبيت الحاج بالمزدلفة مشروعٌ على جهة كونه سُنَّةً في حقه إذا ناسب ذلك حاله واستطاعته وتنظيم فَوْجِهِ، ولا فدية عليه في تركه، خصوصًا إذا كان صاحب عذرٍ في ذلك، ولا حرج عليه.
 
ويحصل المبيت بالمزدلفة بالمكث فيها مدةً تزيد على قدر حط الرحال وصلاة المغرب والعشاء وتناول شيء فيها من الأكل أو الشرب في أيِّ وقت من الليل دون التقيد بمجاوزة نصفه؛ كما سبق بيانه.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق