نجوم في القلوب عالقة: 17 يونيو ذكرى مولده.. يا يوسف: رد قلبي
السبت، 17 يونيو 2023 08:00 م محمد الشرقاوي
يوسف السباعي: فارس في الأدب المصري لم يسقط سيفه
أحب "دولت" فركب الأمواج في قلب الأنواء
أحب "دولت" فركب الأمواج في قلب الأنواء
"مادام لدى المرء شجرة وفي السماء نجوم فكل مافي النفس من أحزان وأشجان يمكن أن يصبح في لمح البصر هشيماً تزروه الرياح".. أعلم أنك راحل، فالعمر لحظة، والسقا قد مات، لكن دموع ليلى جفت، في طريق العودة الطويل، وما أن قربت للنهاية ارتسمت ابتسامة على شفتيك، لكني واصلت المسير "بين الأطلال"، أبحث عن جسد، عسى أن ترد لي قلبي، لكنها يا صديقي أرض النفاق، وأنت لست وحدك، فنادية أيضًا راحلة.
على وهن مر الأديب الراحل بين دروب الأدب، كفارس يطيب قلبه للرومانسية، وأمير يرسم للمجتمع طريقه، فرسخ في "سمار الليالي" مبدأً للعيش، وقال: "لا وطنية ولا دين ولا مبادئ ولا شئ من هذا كله يمكن أن يكون سبب النزاع البشرى إنها كلها مسميات براقة تستر وراءها الداء الأصلى.. وهو الطمع والأنانية".
جوزاء أنت يا يوسف، كنت نشطًا بلا توقف، ومخيلتك أوسع من "الفلا"، حققت كل شيء، فقالوا عنك: "جبرتي"، وقالوا: "رائد الأمن الثقافي"، وقولت أنا: "سارق"، فرد لي قلبي.
في 17 يونيو 1917، كانت مصر على موعد مع ميلاد فارس شق بسيفه طريقًا في تاريخ الأدب المصري.. يوسف محمد السباعي، التحق بالكلية الحربية عام ١٩٣٥ وفي السنة الثالثة ترقى الى رتبة الجاويش ثم تم تعيينه في سلاح السواري وأصبح قائد فريق من فرق الفروسية.
العشق في حياة يوسف
قبل الدخول في حياة "فتى الدرب الأحمر"، لنمر على كينونته مرور الكرام، كالطيف العابر الذي مر به في "مبكى العشاق في موكب الهوى"، حين سأل: "أتدرون ما يحملنا على التعلق بالحياة؟.. أتعرفون ماذا يشدنا إليها ويخيفنا من الخروج منها؟ إنه شىء واحد هو صلتنا بمن حولنا هو حبهم لنا وحبنا لهم.
وهكذا كانت دولت "ابنة عمه"، ملهمته وبطلة روايات له "إني راحلة"، "ليل له آخر"، التي أنجب منها ولديه "إسماعيل"، و"نفيسة"، قال عنها يوسف نفسه: "زوجة أسطورية تعتبر ثلاثتنا أبناءً لها".
تقول الكاتبة لوتس عبدالكريم، في مقال لها، بعنوان: "دولت حبيبة يوسف السباعي": "كانت تبدو صغيرة، إلى درجة لا تفرِّق بينها كثيرًا، وبين ابنتها بيسة، حتى إن أحدهم ـ كما قال لى ـ وقد رآهما معًا فى النادى: قد خطبها من الأستاذ يوسف قائلًا: (ابنتك الصغرى)... هي دولت يوسف السباعى، عظيمة الراحل العزيز الأديب يوسف السباعى، عظيمة فى حبها، وأخلاقها، مثلما كانت عظيمة فى حياته وبعد مماته.
كانت دولت أرض الراحة في حياة "يوسف"، غمرته بالحب في أوقات التعب والضيق، حيث كان يستظل بها، ويلجأ إليها من قيظ وحرور، هكذا قالت لوتس في مقالها المنشور في 15 مارس 2018.
الحب في حياة الفارس رسم ملامح إبداعه، فدائمًا الليل في حياته له آخر، فقال في هذا هو الحب: "خيرًا للإنسان أن يحب يومًا ويموت بعده من أن يعيش دهرًا دون أن يطرق الحب قلبه".
البداية كانت مع "فوق الأنواء"، وهي أول ما خط يوسف في الأدب عن عمر يناهز 17 عاماً، عام 1934، في محاولة لمجاراة الأب الكاتب والمترجم محمد السباعي، والذي رحل ويوسف يتحسس الطريق عن عمر 14 عاماً، ليقول له يا أبي إنه على العهد.
علق يوسف "الأنواء" في مجلة الحائط بمدرسة شبرا الثانوية، كما علقت في قلبه، ليعيد نشرها بعد 13 عامًا، في أول مجموعة قصصية عام 1947 "أطياف"، لتكون قاربًا يتحدى "أنواء الأدب"، حتى وصل لميناء سميت باسمه "ميناء يوسف السباعي". فكتب اسمه بجوار طه حسين بقصة "تبت يدا أبي لهب وتب"، وهي ثان قصة نشرها له الكاتب "محمد الصاوي" في "مجلتي" عام 1935، لتكون أول عمل أدبي ينشر للسباعي وهو بالفرقة الأولى بالكلية الحربية.
ربما أيضاً كان لعشقه لتركة أبيه من الورق دورًا، فأحب الكلمات وصاغها، وصادقها، حتى تغلل نظمها في أنامله، فرسم أكثر من 50 تنوعت بين الرواية والمسرحيات والمجموعات القصصية في دروب الأدب.
بداية حكاية مدرسة السباعي
بدأ السباعي مشواره الأدبي عام ١٩٤٥ في مجلة "مسامرات الجيب" التي كان يرأسها "أبو الخير نجيب"، وظل يعمل بها إلى أن حصل على دبلوم الصحافة من جامعة فؤاد الأول ثم أصدر مجلة "الرسالة الجدية" بالتعاون مع "أحمد حمروش" الذي عمل مديرا للتحرير. وفق دراسة بعنوان: (رؤية المكان في روايات يوسف السباعي – دراسة فنية تطبيقية) للباحث رضا العشماوي، بكلية الأداب جامعة المنصورة، فإن هناك عدة روافد بنت حكاية يوسف السباعي، أولها: "النشأة والبيئة المحيطة"، وهي من أول وأهم الروافد التي غذت إبداعه؛ سواء منها البيئة الأسرية الضيقة أو البيئة المجتمعية الواسعة؛ فأما من ناحية النشأة الأسرية فقد أثرت بيئته الأسرية في أسلوبه، كما استمد منها بعض موضوعات قصصه".
"كما ظهر أثر تلك النشأة في أسرة تحترم الأدب وتميل إليه في ولعه المكتسب للقراءة الأدبية، بل ولعه بالأدب عامة، هذا إلى جانب اطلاعه على الأدب العربي كما تعلمه في المدارس؛ لا سيما نصوص الأدب وكتاب كليلة ودمنة" والكثير من الشعر، إلى جانب حفظه للقرآن، كما قرأ القصص الشعبية الشهيرة؛ مثل "ألف ليلة وليلة" و"سيف بن ذي يزن"، وكذلك شعر "شوقي" ومسرحياته.
وبالنسبة للبيئة المجتمعية العامة التي نشأ فيها فقد استمد منها وكثير من رواياته وقصصه؛ فلئن ولد "يوسف السباعي عام ۱۹۱۷ بحارة "الروم" بالقاهرة إلا أن أسرته ما لبثت أن انتقلت إلى حي "السيدة زينب"؛ مما أتاح له أن يتجول في طفولته في "جنينة ناميش" و"أبو الريش" و"سيدي زينهم" و الماوردي" و"سيدي الحبيبي" و"البقالة" وحارة "السيدة" و"زين العابدين" و"الخليج المصري" و"الناصرية" كتبه و"المبتديان" و"سيدي العتريس"؛ تلك الأحياء الشعبية التي شم رائحتها وتلمس مذاقها في كثير مما ، ويظهر ذلك التأثير بوضوح في اختياره لعناوين معظم قصصه وكذا اختياره للخلفيات المكانية لأحداث الكثير من رواياته. يقول الباحث رضا العشماوي.
وعن السباعي الأب فزرع في يوسف القراءة في سن مبكرة، والذي قرأ كل ما ألفه أبوه وما ترجمه من عيون الأدب الغربي، وكان هذا الشغف بالقراءة صورة من صور علاقته الشخصية بوالده، وفرط ولعه به كان يحب أدبه وآراءه ويعجب به وبها، بحيث أصبحت – على حد تعبير "يوسف السباعي" نفسه - . هي الرصيد المعبأ في داخله، مما كون ذخيرته الحقيقية للإنتاج الأدبي.. لهذا كان من الطبيعي أن يكون والده محمد السباعي" هو أول كاتب أثر عليه.
ويتضح تأثير "السباعي الأب في أدب "يوسف" من خلال عدة مظاهر؛ يتمثل أولها في "التأثر الأسلوبي اللغوي؛ فقد كان أثره واضحا في محاولاته الأولى من ناحية اللغة المنمقة، فظهر في أسلوبه "الإطناب" و"الترادف" والتمثل بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر والحكمة؛ وقد اعترف "السباعي" بذلك صراحة فقال: "كنت أحاول جهدي تقليد أسلوبه، وكانت جل حصيلتي من اللغة من كتابته... وكان أكثر ما يستهويني في أسلوبه قدرته على التضمين.. فرحت أقلده على ضعف حصيلتي من الشعر واستعصائه علي وحاولت استعماله في قصصي الأولى، ولا أظنني استطعت التخلص منه حتى في قصصي الأخيرة.. والظاهرة الثانية التي حاولت تقليدها.. هي قدرته الخارقة على السجع".
وفق "دراسة العشماوي" (2010)، فإن الشواهد على ذلك قول "يوسف السباعي - المعين في مؤسسة روزاليوسف عام " في وصف أحد الأماكن: "خرب مقفر محطم مهدم، ليس به من سمات محد باد ومظاهر عز غير غير بقايا باهتة"، وقوله على النسق القرآني رفع الله عنك عبء جسدك الذي أنقض ظهرك، وأيضًا: "والسماء والكواكب والنجم الثاقب قد بانت كلها غطاء مظلما يطبق على الأرض، وكذلك تأثره بالحديث الشريف في قوله: كدستها في الوعاء الذي ما ملأ ابن آدم شرا منه، وقوله كان لا ينصرف عن الجحر حتى بلدغ مرة، وأحيانًا مرتين، وتأثره بالحكمة والأمثال في قوله: "من يدريك أن هذه العصا لن تكون من تلك العصية".
في كتابه نائب عزرائيل – البحث عن جسد: "قال أتدري أن أكبر كارثة يمكن أن يبتلي بها المرء في حياته هي الموت.. أتدري أن الانسان مهما بلغ تبرمه بالحياة وكرهه لها تجده يتعلق بأهدابها ويخشي الموت رغما عن تأكده أنه سيضع حدًا لضيقه وبؤسه لا لشيء إلا لفرط ما يتخيله في الموت من بشاعة".. لقد كان للموت في حياة يوسف أثرًا، فقد تأثر بأبيه في قضية "الموت" التي انشغل بها في معظم كتاباته ورواياته ومثلت بالنسبة له هاجساً ووسواساً، فقد مات أبوه وهو ما زال في الرابعة عشرة من عمره.
يشير الباحث بقسم اللغة العربية: "كان لذلك أثره العميق في نفسية الصبي المتفتح وفي مواجهته لمشكلة الموت وتعامله معه بعد ذلك في معظم ما كتب؛ فكان أثر أبيه عليه في موته لا يقل عن أثره عليه في حياته، وقد اعترف "السباعي" نفسه بتأثير موت والده عليه فقال: أقر بأنه خلف في حياتي فراغا عجيبا، وكان أكثر ما يفجعني في موته اليقين بأني لن أراه ثانية، وقد انعكس هذا في أحلامي فظللت أحلم لسنوات بعد وفاته بأنه قد عاد مرة أخرى، وكانت اليقظة تروّعني بحقيقة فقده". وهو القائل أيضًا: "لقد عودنا الموت أنه ليس له قواعد و لا قيود .. لما لا يُدرك الانسان ان الموت عمليه هينه لينه وأنه انطلاق من سجن الحياة وتحرر من قيود الجسد".
أغنيات السباعي ظاهرة اجتماعية
ما من كائن في هذه الحياة إلا يشجبه اللحن الجميل وتطربه الموسيقى العذبة، ولكل إنسان لحنه، وموسيقاه، التي تمس من نفسه موضعاً حساساً، فلا يكاد يسمعها حتى يطير ذهنه إلى موضع معين من أيامه الخوالي، ويبصر على ضوئها صورة من صور الماضى التى طواها الزمن، وقد تصيبه من ذكراها فرحة أو لوعة، وقد تشجيه وقد تبكيه، حسب ذلك الجو الذي سمعها فيه ومهما كان من مرارتها أو حلاوتها فإن لها في النفس لذة عجيبة ونشوة ممتعة.
ولست أجد كالألحان والأغانى لغة تتفاهم بها القلوب الولهى والنفوس الصبة الذائبة، فرب قلبين فرق بينهما البعد وأحرقهما طول الهجر والحرمان طاف بهما في وحدتيهما لحن بالك أو صوت شاد ناطقاً منهما حرقة. وضمد جرحا وشفى فرحا، وقرب بينهما حتى لكأنهما التقيا على بعد الشقة ونأى المزار.
يقول نجيب محفوظ "صاحب نوبل"، عن السباعي بأنه "جبرتي العصر"، كونه سجل بكتاباته الأدبية أحداث الثورة منذ قيامها حتى بشائر النصر في حرب أكتوبر المجيدة عبر أعماله: رد قلبي، جفت الدموع، ليل له آخر، أقوى من الزمن، والعمر لحظة.
توفيق الحكيم، قال هو الآخر عن أسلوب السباعي، بأنه سهل عذب باسم ساخر، ويحدد محور كتبه بقوله أنه يتناول بالرمز والسخرية بعض عيوب المجتمع المصري. ويتفق فريد أبو حديد مع الحكيم فيعلن أن أسلوب السباعي سائغ عذب سهل سليم قوي متين.
ويرجع ذلك السمت اللغوي الساخر -بحسب دراسة رؤية المكان- أن السباعي الابن تأثر بأبيه فكان في أسلوبه الفكاهي الساخر الذي لا يكاد تخلو منه رواية من رواياته ولا تكاد شخصية من شخصياته تفتقر إليه!
وتحدث "السباعي" عن أبيه فقال: كانت فيه فكاهة حلوة تهون العسير وتذل الصعب وتجلو صدأ العيش.. لا يعدله أحد في الظرف وحسن المراضاة وطيب المعاشرة، فقد كان ضحوكاً أبدا.. وكان يؤثر من الأصدقاء الظريف القادر على النكتة، وهو ما ظهر في شخصية الخطيب المنافق الذي كان يعدد في مزايا وسمات مرشحه الانتخابي ثم انقلب عليه فجأة بعد أن شرب من مياه الأخلاق: "مضت فترة صمت والخطيب يهز رأسه وينظر إلى زينهم" باشا دون أن يتكلم، وأخيرا نظر إلينا وسألنا في لهجة بائسة ساخرة - بقى بالذمة دا منظر ؟! أهذا شكل باشاوات؟ أهذا هو البطل العبقري الذي يتوقد ذكاء ونشاطا ؟! أهذا الذي تسيل ريالته كالمعاتيه والمجاذيب هو الذي سيطالب بحقوقنا في مجلس النواب؟! والله لقد ظلمنا أنفسنا وظلمنا مجلس النواب يا لضيعتنا وضيعة البلد التي تهب أمثالك كرسي النيابة وأنت لا تستحق كرسيا في قهوة بلدي أو كرسي مطبخ النت من تمل النبي؟! أستغفر الله العظيم أهذا الشكل الحلاليفي الزرايبي من نسل النبي".
بينما يرى الدكتور محمد مندور السباعي في رواية "السقا مات"، بأنه أديب من أدباء الحياة بل من أدباء السوق التي تعج بالحياة والأحياء وتزدحم بالأشخاص والمهن، لا يقبع في برج عاجي بل ينزل إلى السوق ويضرب في الأزقة والدروب.
وهو ما يتحدث عنه السباعي نفسه في نائب عزرائيل، بقوله: "الانسان بطبيعته مخلوق مهرج وانك اذا ما أردت منه ان يستمع اليك فاضحكه اولاً ثم قل له ماتريد قوله". يرى مرسي سعد الدين في مقدمة كتاب "يوسف السباعي فارس الرومانسية" إنه لم يكن مجرد كاتب رومانسي بل كانت له رؤية سياسية واجتماعية في رصده لأحداث مصر، بينما قالت لوتس عبد الكريم: إن دوره في الثقافة المصرية لا يقل عن دوره ككاتب.
ويعد السباعي - رئيس تحرير لمجلة آخر ساعة ١٩٦٧ ورئيس مجلس إدارة دارالهلال- ظاهرة في الحياة الثقافية المصرية رغم تجنب النقاد التعرض لأعماله فيما عدا مؤرخي الأدب، ويكاد ذكره الآن يقتصر على أفلام أخذت عن أعماله ومن بينها إني راحلة ورد قلبي وبين الأطلال ونحن لا نزرع الشوك وأرض النفاق والسقا مات، كما أنتج التليفزيون المصري مسلسلاً عن حياته عنوانه فارس الرومانسية.
لوزير الثقافة المصري عام 1973، مقولة: "فإني أكره الانتقاد.. لأننا كثيرًا ما ننتقد الناس مر الانتقاد فلا تكاد الظروف تضعنا في مواضعهم حتي نصبح شرًا منهم ونفعل شرًا مما فعلوا وقد علمتني الظروف ألا انتقد أمرًا لأني لو استطعت أن أري بعينيه وأفكر بعقله لما فعلت إلا كما فعل".
يوسف فوق النقد
صنعت مدرسة السباعي حالة من الجدل بين النقاد المصريين، كونها تمثل مرحلة للانتقال بين الرواية الاجتماعية والرواية الواقعية، فعميد الأدب العربي مثلاً يرى أن "أسلوب القصة عند السباعي في الفكاهة الحلوة، التي تصور خفة روح الكاتب، حين يصف الدعابة والعربدة، وفيه الدعابة المرحة، التي تصور وداعة الأطفال". بينما يرى الكاتب ثروت أباظة: "أن السباعي استطاع أن يجمع بين القدرة الخلاقة على إنشاء فكرة، والقدرة الجبارة على تنفيذها". وهو ما وافقه المؤرخ غالي شكري بأن اللغة في أدب السباعي لها أكثر من شأن؛ إذ إنها من عناصر الجذب، التي تفسر لنا وجهاً من وجوه الرواج، الذي تناله مؤلفاته بين الشباب، بخاصة، فهي لغة تهمس ولا تصرخ، تأسر ولا تأخذ بالخناق، تمنحك إحساساً مغرياً بأنك قارئ ممتاز، بالتهامك للصفحات.
لكن هذا لم يستسغه الرافضون فالكاتب الصحفي فتحي غانم، اعتبر ما يكتبه السباعي مقال له كتبه في روز اليوسف عام 1958 أن "ما يكتبه السباعي تهريج.. وأنه يستغل منصبه في فرض إنتاجه الأدبي على الجمهور، وظهر جيل الستينيات الذي كان ينظر إلى الماضي بغضب، ولا يثق بالحاضر، ولا يبدو له أفق في المستقبل، وبالتالي كان عليه أن يكتب أدباً، يعبّر عن هذا كله، وحين أغلق الرئيس السادات مجلتي الطليعة والكاتب، وعمل على خلق واجهة بديلة، لعب السباعي دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.
السباعي فارس لم يسقط سيفه
دفع نقيب الصحفيين في 1977 حياته ثمناً لمواقفه، فمهد للسلام بقلمه، وحياته، كان بعيدًا كل البعد عن معارك الدهماء، سمت روحه وعقله عن صغائر الأمور، درجة أن الكاتب يوسف إدريس منافسه في انتخابات نقابة الصحفيين، قال إن يوسف كان يلقاه مرحباً فاتحاً ذراعيه.
لقد كان في المعارك صلداً، يقول عبدالرحمن الشرقاوي: "بعد هزيمة 5 يونيو عام 1967م في أحد اجتماعات اتحاد الكتاب العرب وقف مندوب أحد الوفود يطلب عزل يوسف السباعي، وعلى الفور أعلن يوسف استقالته وانسحب إلى حجرته، وجاء مندوبو الوفود جميعاً وفي مقدمتهم ممثل الحزب الشيوعي وقال إن هذا العضو الذي طالب بعزل يوسف السباعي مفصول من الحزب، وقد سلم وثائق الحزب للمخابرات المركزية الأمريكية، وعاد يوسف وعادت الوفود إلى الاجتماع لتطرد هذا العضو الذي أثار الزوبعة، وفي اجتماع الكتاب الآسيويين الإفريقيين في سبتمبر عام 1973م في "ألما آتا" في الاتحاد السوفيتي وحاولوا عزله فطرح الثقة بنفسه وفاز بأغلبية ساحقة.
لم تشفع أي أغلبية فاز بها السباعي في قلوب المصريين له من الموت الذي كان يخشاه، فاغتيل في قبرص صباح 18 فبراير عام 1978، عن عمر ناهز الـ60 عاماً أثناء قراءته إحدى المجلات، على يد نائب عزرائيل. إن الانسان يستطيع أن يعتاد كل مكروه في حياته إلا الموت فهو لا يعترف بأن الموت حق وهو لا يوطن نفسه عليه ولا ينتظره كحادث لابد من حدوثه.. بل هو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا". ليبقى يوسف السباعي غطاءً منيراً يطبق على الأدب المصري.