السودان ليس مجرد جار

"هدفنا تحرير السودان من أي نفوذ أجنبي، وسواء اتحدنا أو انفصلنا فإن مآلنا واحد ومصيرنا لبعضنا، وفي كل الأحوال فإن مصر تطالب للسودانيين بحقهم في تقرير مصيرهم، فإذا قرروا بعد ذلك الوحدة معنا فمرحبا، واذا قرروا الاستقلال فهذا حقهم".. كانت تلك افتتاحية كلمة اللواء محمد نجيب رئيس وفد التفاوض المصري في جلسة التفاوض مع البريطانيين يوم 22 أكتوبر 1952.

 

قبل هذا اليوم وهذه الجلسة كانت السودان حجر عثرة في التفاوض على جلاء البريطانيين عن وادي النيل، وكانت المطالبة المصرية بالسيادة على السودان على أساس فتوحات محمد على في بدايات القرن التاسع عشر قد تجاوزها واقع العصر، وفهم طبيعة السودان الجغرافية وواقع تركيبة سكانه وتنظيماته القبيلة والسياسية في منتصف القرن العشرين، لذلك كانت مفاجأة للجانب الإنجليزي تغيير الموقف المصري من المطالبة بملكية السودان وبالتالي الرهان على تعثر مفاوضات الجلاء، إلى الارتكاز على حق تقرير المصير للسودان وخروج الإنجليز من مصر والسودان ثم النظر في مسألة الوحدة من عدمه.

 

حتى ذلك الوقت كان في السودان تياران، الأول تيار الانفصال عن مصر ويقوده السيد عبد الرحمن المهدي باشا، والثاني ينادي بالوحدة مع مصر ويتزعمه السيد إسماعيل الازهرى، استطاعت مصر في فترة المفاوضات بعد ثورة 23 يوليو توحيد أحزاب التيار الوحدوي في حزب واحد هو "الحزب الوطني الاتحادي" بزعامة الازهرى، بل كانت المفاجأة الثانية للبريطانيين تحقيق التوافق مع الأحزاب المناديه بالانفصال على مبدأ "حق تقرير المصير"، ما دعا وزير الخارجية البريطاني حينها "انتوني ايدن" إلي طلب الحاكم العام البريطاني للسودان "روبرت هاو" تقديم تفسير من السيد المهدى عن سبب توقيعه على وثيقة التوفيق دون الرجوع إلي السفارة البريطانية بالاستشارة، وكان رد السيد المهدى أنه مع تقديره الشديد للصداقة التي تربط تيار المهدى لبريطانيا الا أنه لا يستطيع رفض التوقيع على وثيقة تعطي حق تقرير المصير للسودان.

 

حاولت بريطانيا تأليب قبائل الجنوب وحثهم على طلب الانفصال، وسافرت بعثة مصرية برئاسة "صلاح سالم" واستطاع لقاء زعماء قبائل الجنوب واقناعهم بتبني مطلب حق تقرير المصير للسودان.

 

كان ذلك جزء يسير من تاريخ طويل يربط بين مصر والسودان، لا تقف فقط عند الجوار والحدود المشتركة، بل يتخطاه إلى وحده المصير من خلال رباط شريان الحياة للبلدين المتمثل في نهر النيل، وما يمثله السودان لمصر من عمق استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه او العداء معه بواقع الجغرافيا والتاريخ. نعم هناك حالات يمكن معها التعايش بين جارتين بينهما تناقضات ونزاعات بل وحتى عداوات كما هو الحال على حدود مصر الشرقية، لكنه في حالة السودان أمر لا تستطيع مصر تحمله أو قبوله.

 

إن اهمال وتجاهل تنامي حالة العدائية ضد مصر من جانب بعض الخطابات التي تصدر من الداخل السوداني، والذى لم ننتبه اليه الا مؤخرا خطأ استراتيجي يقع على كاهل نظام الرئيسين أنور السادات وبعده مبارك.

 

يتهم الاخوة السودانيين المصريين بالتعالي عليهم والعنصرية ضدهم، ولديهم من الشواهد ما عندهم، ونحن هنا لسنا بصدد نفى الامر كليا، فقد تورط منا من تورط غير واع بوطأة أثر هذا الخطاب الكريه على صورة مصر التي استمدت قوتها من أنها الكبيرة التي تتعالى على الصغائر، لا تبدأ بعدوان فعلا او قولا، تنبذ التعالي والكراهية من قاموسها، ويرحب أهلها بالغريب، فما بالنا بالأخ الشقيق بدون انتظار المقابل.

 

من لمصر اذا ما عادينا السودان، ولمصلحة من استشرت العدائية بين الشعبين، ولا اعتقد الا أن من نشر العداوة من كان يفضل استعبادنا معا قديما، كما ورد في الاسطر الاولي.

 

في هذه الأيام يمر السودان بأيام صعاب نبتهل إلى الله ان تمر سريعا، يحتاج فيه الشقيق السوداني شقيقه المصري كما لم يحتاجه من قبل، وكلي ثقة أن تلك اللحظة التي سيظهر فيها المعدن الحقيقي للمصريين، وربما تكون تلك البداية لرأب صدع مؤلم لا يمكن أن نتركه يتسع لما هو اكثر من مناوشات على مواقع التواصل الاجتماعي او في مباريات كرة القدم، ولا اعتقد غير أن مصر على المستوى الرسمي والشعبي ستكون حيث كانت حاضنة كل من يحتاجها على ما تمر به من ظروف اقتصادية مؤلمة، لكنها لقيمات نقتسمها مع اشقائنا عن طيب خاطر، ولا نبخل ابدا بالغالي والنفيس لنجدة اشقائنا.. فقط لأننا مصر.