فليت الذي بيني وبينك عامر (2): وقل السلام عليك يا ابن الفارض

الأحد، 02 أبريل 2023 01:10 ص
فليت الذي بيني وبينك عامر (2): وقل السلام عليك يا ابن الفارض
يكتبها: محمد الشرقاوي

ما من أمنية أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته، يستغفر ويحمد ويدعو الله، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح التائهة.

الشوق أحد منازل العمار، إن لم يكن جُله، والهيام، والشعر، والموسيقى أيضًا.. لن يهم أحد الوسيلة بل الأهم غايتك في الرحلة، وتجمل روحك وراحك، وتدرك بذلك ماهية الحب المشروط، أن تحب، بلا توجس، وبلا انتظار، وبلا سبب، كل ما عليك أن تجود بالوصل، أو تدين بالحب، ولله در الإمام محي الدين بن عربي: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه.. فالحب ديني وإيماني".

ومما كتب في الوصل، ما قاله الإمام أبو الحسن الششتري، أحد شعراء الأندلس: "كلما قلتُ بقربي تنطفي نيرانُ قلبي.. زادني الوصلُ لهيبًا هكذا حالْ المحبِ.. لا بوصلي أتسلى لا ولا بالهجر أنسى.. ليس للعشق دواءٌ فاحتسبْ عَقلا ونفسا.. إِنني أسلمتُ أمري في الهوى معنى وحسّا.. ما بقى إِلا التفاني حبذا في الحب نحبي".

ويريد أن يقول: "إنه لا يمكن للعارف أن يقول أنه وصل أو شَرِبَ وارتوى لأن الحب شُربٌ بلا ري، وهو تجلي إلهي على عباده الصالحين والعارفين ومن لم يذقه شرباً ما عرفه، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها".

على مدار شهر رمضان الكريم، نطرق أبواب المحبين علنا نصل، وعلّ نيران الشوق تنطفئ، ولهيبها يُخمد، نجول في عقلوهم، ونخطو على مهل نحو العمار، ساعين في الوصال والحب والإمدادات الروحانية، نجول بتلك الرحلة مع العارفين، نتذوق معهم معنى العشق الإلهي، لنرى بعيونهم، ونشعر بوجدانهم، ما ذاقوه خلال رحلاتهم، وإن كانت مختلفة، فهي متشابهة للبحث عن الذات، عن روح الله التي بثها في نفوسنا.
 

الحلقة الثانية

وقل السلام عليك يا ابن الفارض

عمر بن أبي الحسن.. ترك حبًا ينير قلوب العارفين

- تحت لواء الحب رفع الزاهد راية مذهبه وجعل من المحبة سر الخلق وتأمل وتفكر فانفجرت من صحراء مكة ينابيع روحه


- استقبلت مصر فاتح العشق الإلهي بعد رحلته للحجاز وحينما عرف الملك الكامل الأيوبي بمكانته فقصده بالجامع الأزهر لكن ابن الفارض سافر إلى الإسكندرية
 

هل سمعت يومًا عمن أحبوا فعبدوا؟ عبادتهم حبًا للوصل، ليس خوفًا من العذاب، وصلاتهم حبًا للقاء، وحمدهم مناجاة، وتهليلهم بالتكبير فرحًا، وزادهم غناءٌ، غايتهم الوصل ليس مكسبًا ماديًا، فيرون المحبوب في كل شيء حولهم، فهو الوسيلة والغاية، والطرق إلى الله كثيرة، بعدد أنفاس البشر.

من ذاق الحب لم يرق عبادة دونه، فملكوته "غيابة جب" يهنئ فيها، تحسبه سكرانًا، وهو من اللذة فاق، تجرع من العشق الكثير، فهام في المحبوب، وطاب وجدانه، يقول سلطان العاشقين: "شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً.. سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ، لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا.. هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم، ولولا شذَاها ما اهتدَيتُ لِحانِها.. ولولا سَناها ما تصَوّرها الوَهْمُ".

أقلبي يحدثني بأنك متلفي؟ أم أن الوجد باقٍ والوِصال مماطِلي؟ لا أعرف إجابة، وما أعرفه أني قتيلُ بأيِّ من أحببتهُ، واخترت لنفسي في الهوى من تصطفي.. بين كلاهما هام عمر بن أبي الحسن.

تحلى ذلك العاشق بالغرام، فطاف حول كعبة قلبه سبعًا، وهرول بين الوجد والهيام سبعًا، واعتمر شوقًا، وقلبه بالغرام شجي، فقال: "لله أجفان عين فيك ساهرة.. شوقاً إليك وقلب بالغرام شجي، أصبحتُ فيكَ كما أمسيتُ مكتئباً.. ولَم أقلْ جزَعاً يا أزمةُ انفرجي، ما بين معترك الأحداق والمهج.. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج".

الحب رباه والزهد نقى روحه 

كان لـ"أبو حفص" من مهنة والده نصيبًا، يقول "عمر"، إن "ابن الفارض" نسبة إلى "الفَارَض" بفتح الفاء وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها ضاد معجمة، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال، امتهن والده إثبات هذه الفروض فغلب عليه التلقيب بالفارض وعرف ابنه بـ"ابن الفارض"، وقد كان والده من كبار علماء مصر في زمانه.

تحت لواء الحب رفع "الزاهد" راية مذهبه، وجعل من المحبة سر الخلق وسبب الوجود، فترك واعتزل الدنيا، وتأمل وتفكر، فانفجرت من صحراء مكة ينابيع روحه، تروي كل مشتاق لما شرب منه.

 

التف حول "الحموي الأصل" المريدين يرشدهم، يهذب نفوسهم، يسقيهم الزهد الذي استقاه من والده، الذي انصرف عن متاع الدنيا وجاه المنصب ورفض منصب قاضي القضاة، وهو ما سجله الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه "ابن الفارض والحب الإلهي": "ليس شم أن نشأة كهذه كان لها أثرها القوي في تهذيب نفسه، وترقية طبعه، وتصفية قلبه، بحيث جعلت منه فيما بعد رجلاً قوي الخلق نقي الضمير، خليقًا بإجلال الملك الكامل له، وإقبال الخاصة والعامة".

"ما أعجَبَ الأيّامَ تُوجِبُ للفَتى.. مِنَحاً وتَمحَنُهُ بِسَلبِ عَطاء"، منح القدر روح "ابن الفارض" طمأنينة، وتعلق قلبه الصوفية؛ فسلك مسلكهم في الحب، وبدأ سياحته في وادي المستضعفين بجبل المقطم بالقاهرة. يقول "ابن خلكان": الشاعر الصوفي ولد في القاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة 576 هجرية.

كانت الصوفية السمة السائدة في مصر ذلك الوقت، يقول "حلمي" أستاذ الفلسفة والتصوف بكلية الآداب جامعة القاهرة. شب "ابن الفارض" على الفقه الشافعي، وأخذ الحديث عن ابن عساكر والمنذري، فتهيأت نفسًا سوية، زهدت، فتصوفت، فازدانت جمالاً.

أضف إلى ذلك أنه نفسٌ أثقلها العلم، فهو أحد الفقهاء الأعلام، يقول الإمام جلال الدين السيوطي، في "قمع المعارض بنصرة ابن الفارض"، إن الشاعر دخل الجامع يوماً لصلاة الجمعة، والخطيب يخطب، فوجد شخصاً يغني، فنوى تأديبه سرًا، فلما انقضت الصلاة وانتشر الناس، خرج ابن الفارض فناداه الشخص المغني أن أقبل، فلما أقبل أنشده: "قسم الإله الأمر بين عباده فالصب ينشد.. والخلي يسبح، ولعمري التسبيح خير عبادة.. للناسكين، وذا لقــوم يصلح". وأن ذلك سبب زهده.

ويختلف مع ذلك كتاب "ابن الفارض والحب الإلهي"، كونها رواية لا تتوافر لها أسباب الوجاهة، ولم يذكرها أحد من المؤرخين سوى السيوطي، وبالتالي اتخاذها أساسًا لتحوله إلى الصوفية "مردود".

في الحجاز تجلت الفتوح

فنفسي كانت قبل لوامة متى.. أطعها عصت أو أعص كانت مطيعتي".. نفس "ابن الفارض" نازعته كثيرًا، فكان يتردد على "وادي المستضعفين" بين الحين والآخر كلما نازعه الشوق، وظل هكذا حيرانًا، حتى كان يوم عاد فيه من السياحة في المقطم، ودخل" المدرسة السيوفية"، فوجد شيخًا بقالًا على بابها يتوضأ وضوءً غير مرتب، فاعترض عليه" ابن الفارض" بأن هذا الوضوء لا يلائم قواعد الشرع.

هنا نظر الشيخ إلى ابن الفارض، وقال له: "يا عمر أنت ما يفتح عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة شرفها الله، فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح"، فدهش ابن الفارض، ورد على الشيخ بأن الأمد بينه وبين مكة بعيد، وأنه لا يجد ركبًا ولا رفقة في أشهر الحج، قال الشيخ وهو يشير: "هذه مكة أمامك"، قالوا: فنظر "عمر" معه فإذا هو يرى مكة، ثم تركه وطلبها، ولم تبرح أمامه حتى دخلها في ذلك الوقت.

ظل الشاعر في مكة 15 عاماً يسيح في الأرض وهناك فتح له الله بابًا لم يغلق حتى اللحظة، ووصل هيامه حد قوله: "لم أدرِ ما غُربَةُ الأوطانِ، وهو معي، وخاطِري، أينَ كَنّا، غَيرُ مُنْزَعِجِ". فكان يعتزل الناس ولا يصلهم إلا إذا أنهكه الشوق لبيت الله الحرام. وهو ما أكده مصطفى حلمي.

ائتنس "ابن الفارض" عزلته، فأنشد قائلاً: "وجَنّبَنِي حُبّيكِ وَصْلَ مُعاشِري.. وحببني ما عشتُ قطْعَ عَشِرَتي، وأَبعَدَني عن أرْبُعي بُعْدُ أرْبَعٍ.. شبابي وعقلي وارتياحي وصِحّتي، فلي بعدَ أوْطاني سكونٌ إلى الفلا.. وبالوَحش أُنسي إذ من الإِنس وَحشتي".

الآن حان وقت عودة الرسول

انقضت المدة في أرض الحجاز وتأهبت مصر لاستقبال فاتح العشق الإلهي، فاتصلت الأرواح، وجاءه هاتف "البقال" أن كفاك غربة، فروحي قد دنا موعدها، ووجبت صلاتك عليّ ودفني بـ"العارض" –مغارة في الجبل عرفت بأبي بكر محمد جد مسلم القاري لأنه نقرها، ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله الفاطمي "خطط المقريزي ج 4 ص 336".

"ولم تدم أورادي".. عاد "ابن الفارض" تاركًا "فتحه" في صحراء مكة، متحسرًا على ما فات من أيامه مع أحبته في الحجاز: "أوَميضُ بَرْقٍ بالأُبَيْرِقِ لاَحا.. أم في رُبَى نجد أرى مِصباحا، أم تلكَ ليلى العامريّةُ أَسْفَرَتْ.. ليْلاً فصيّرَتِ المساءَ صباحاً، يا راكِبَ الوجْناء وُقّيتَ الرّدى.. إن جُبتَ حَزْناً أو طوَيتَ بِطاحا، وسَلَكْتَ نُعمانَ الأراكِ فعُجْ إلى.. وادٍ هُناكَ عَهدْتهُ فَيّاحًا".

أورد المؤرخون، أنه بعد عودة ابن الفارض إلى مصر عرف الملك الكامل الأيوبي بمكانته، فقد كان يومًا في مجلسه، الذي كان يعقده للعلم والأدب، فتذاكر الحاضرون في هذا المجلس القوافي الشعرية الصعبة.

وقال الملك: من أصعبها الياء الساكنة، وطلب ممن في المجلس أن يذكر كل منهم ما يحفظه من هذه القافية، فلم يتجاوز أحدهم عشرة أبيات، وهنا قال الملك إنه يحفظ منها خمسين بيتًا قصيدة واحدة وذكرها. إلا أن القاضي شرف الدين كاتب سر الملك قال إنه يحفظ منها مائة وخمسين بيتًا.

وأنشد قصيدة ابن الفارض التي مطلعها: "سائق الأظعان يطوى البيد طي.. منعما عرج على كثبان طي".. ولما سأل الكامل عن ناظم هذه القصيدة قيل له إنه "ابن الفارض"، فأرسل كاتب سره يحمل إلى ابن الفارض ألف دينار لينفقها على الفقراء الواردين عليه، فأبى ابن الفارض قبولها.

ودعا هذا الكامل إلى زيارته، فقصد إليه ومعه بعض خواصه، بالجامع الأزهر، ولكن ابن الفارض لم يكد يحس بقدومهم عليه حتى خرج من الباب الآخر الذي بظاهر الجامع، وسافر إلى الإسكندرية.

شعر تجلي بروح تهادت  

قرض "ابن الفارض" الشعر نحوًا من أربعين سنة، تنوع من فترة صباه وكهولته، وفق محمد مصطفى حلمي، في "ابن الفارض في سلسلة "أعلام العرب"، (ص. 60 عدد. 25)، تراوح شعره بين الفطرة والتكلف، ويميل إلى حد الافتتان، نحو الزخرف البديعي من تورية وطباق وجناس، كما كان ينحو في هذا الشعر إلى التصغير، حتى لقد عد في مقدمة شعراء العربية اهتماما بالتصغير.

"إن أحدا من هؤلاء لم ينكر على ابن الفارض شيئا من حاله ولا من نظمه، وأنهم كانوا معه في غاية الأدب".. يقول "ابن إياس" في صدد الحديث عن معاصري ابن الفارض من الأدباء والشعراء، بينما وصفه الإمام شهاب الدين الأنصاري بأنه "قدوة في الطريقة، وأسوة في علم الحقيقة، إلا أن صناعة الأدب عليه أغلب، وعلم الشعر فيه أرجح".

 

في شعر "سلطان العاشقين" تجلت أشواقه وتعلقه بحب الذات الإلهية، ومعرفة الحقيقة العلمية، ولقصيدته "التائية الكبرى" يصور فيها ويجسم أطوار حياته الروحية، وما عاناه خلالها من رياضات ومجاهدات، ثم ما انتهى إليه من فتوحات ومكاشفات، بحسب "الموسوعة العربية الميسرة" (القاهرة: دار القلم، 1965) ص 24.

بدأ التائية الكبرى، بقوله: "سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي.. وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ، فَأَوهَمتُ صَحبي أنَّ شُربَ شَرابهِم.. بهِ سُرَّ سِرِّي في انتِشائي بنَظرَةِ".. وفي القصيدة تجلت أقصى درجات العشق الإلهي، وهنا يعني: أنه أوهم أهل الطريق والسلوك المشاهدين لجمال الصفات، والمتعلقين بحسن الأفعال والمظاهر دون الذات، بنظري معشوقهم الصوريّ، ومحبوبهم الظاهريّ، أن بشرب شرابهم حصل لسري السرورُ حال كوني منتشيّا، فظنوا أن سرور روحي وانتشاء قلبي، حصل مما أدركوه ونظروا إليه من تجليات الصفات في مظاهر الذات، ومعاني الأفعال في صور الآثار، ولم يعلموا أني مستغرق بتجلي الذات مُهيم بجمالها مشغول بها عن غيرها. (اقتباس من موقع الديوان).

وختمها: "فحَيّ على جَمْعي القديمِ الذي بِهِ.. وَجَدْتُ كُهُولَ الحيّ أطفالَ صِبيَة، ومن فضلِ ما أسأرْتُ شربُ مُعاصري.. ومَنْ كان قبلي فالفضائلُ فَضْلَتِي".

download (1)

قلبي يحدثني بأنك متلفي

في "الميمية / الخمرية"، شدى ابن الفارض بالحب الإلهي، وطافت نفسه حول النور، وانتهى منها إلى مذهب وحدة الشهود، فقال: "أرج النسيم سرى من الزوراء.. سحرًا فأحيا ميت الأحياء، أهدى لنا أرواح نجد عرفه.. فالجو من معنبر الأرجاء".

وفي "الميمية" حكى عن قصة رضاه بعد العزة بالذلة، وحلا له خلع العذار بعد النسك والتقوى، فقال: أصلي فأشدو حين أتلو بذكرها.. وأطرب في المحراب وهي أمامي، وبالحج إن أحرمت لبيت باسمها.. وعنها أرى الإمساك فطر صيامي".

واصل "السلطان" هيامه في الذات الإلهية، فنظم رائعته: " قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي.. روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ، لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي.. لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي، ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِهِ.. في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف، فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني.. يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ".

هنا خيل لـ "ابن الفارض" مخاطبة الذات الإلهية العليّة، بأن قلبي يقرّ بأن حُبَّكَ أيها الحبيب بين الضلوعِ قد شبّت نارُهُ واتَّقدتْ حتى بات التّلف يسري إليها، وروحي مقدّمة بين يديك سواءً أكرمتَني لقاءَ ذلك أو لا، فإنني أحبكَ بلا مقابل، وكل ذلك الحب لستُ راضيًا عنهُ فهو ليس كافيًا في جناب حضرتكَ، فإذا لم أمُت في هذا الحبّ فلا أعدُّ نفسي عاشقًا، وليس بحوزتي سوى روحي لأقدّمها وأقول من خلالها أنني أحبكَ، فإذا قبلتَها مني فذلك مُسعِفٌ لي وسَعدٌ أنالُه، ويا خيبتي وأسفي إذا لم تقبلها. بحسب حسن البوريني وعبد الغني النابلسي، في شرح ديوان ابن الفارض الشريف المناقب، ص. ص 147 -165.

في القصيدة ثراء لغوي بديع، غلبت عليه الاستعارة والتشبيه، ظهرت في ألفاظ كـ "قلبي يحدّثني"، "وباذلُ نفسهِ" و"ثوب السقام" و"أكاد أجلُّهُ" كالمُصحفِ.

صاحب النقاء يأبى الشقاء

أراه هكذا، فالمتتبع لرحلته، يجده بدأ السياحة في المقطم، في وادي المستضعفين، كلما شقت نفسه عليه، ثم الحجاز لتتجلى عليه الفتوح من الله، يقول كتاب "ابن الفارض.. الحب الإلهي" إن حياة الشاعر خلقية نقية، بكل ما في هذا الوصف من معنى، وأن صاحبها قد عمد فيها إلى سلوك لا شبهة فيه ولا غبار عليه، سواء فيما بينه وبين نفسه وربه، أو فيما بينه وبين غيره من الناس. يقول عنه "ابن خلكان" إنه كان رجلًا صالحًا، كثير الخير، على قدم التجرد، حسن الصحبة، محمود العشرة.

adabworld-poetry-quotes-4230-1024x1024

لماذا لم يمدح "ابن الفارض" نبي الله؟

على مر العصور تبارى شعراء الصوفية في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ابن الفارض لم يفعل، واكتفى بالعشق الإلهي او فعل ولم يصلنا.

الحديث عن ذلك قليل للغاية لا نستطيع أن نجزم بأنه مدح سيدنا النبي أم لا، قد يكون مدحه سراً، والمؤكد انه ما عرف أحدا ربه إلا ومدح نبيه فهو حبيب المحبوب وقد تطرق الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إلى ذلك بقوله: "هو سلطان العاشقين بالرغم من أنه لم يمدح، وسلك طريق الزهد والتصوف منذ صباه فكان دائما ما يخلو إلى نفسه في وادي المستضعفين بجبل المقطم قبل أن يخبره شيخه ضرورة الرحيل إلى مكة حتى يفتح الله بصيرته".

وفسر "جمعة" خلال لقاء تلفزيوني، عبر برنامج "مصر أرض الصالحين"، عدم مدحه للنبي بأن الله كفانا مدحه، لافتًا إلى أنه حُبب إليه الاعتزال، لكنه قبلها سلك طريق الشعر وأعلن الحب مذهباً.


ورحل العاشق إلى مبتغاه
كان الرحيل بذلك الجسد الفاني، لكنه لا يزال يحيى في قلوب العاشقين، كلماته منقوشة على جدران أرواح العامرة بالحب، والأنوار.. لقد رحل، وسقطت عمامة العارف بالله جانبًا، بعد أكثر من أربع سنوات من عودته من مكة، ثبت عن المؤرخين أنه توفي في الثاني من جمادي الأولى سنة 632 هجرية، و23 يناير 1234 ميلادية، دفن بالقرافة بسفح المقطم عند مجرى السيل حت المسجد المعروف بـ"العارض"، ولا يزال ضريحه موجودًا إلى الآن، أما المسجد الحالي الذى به الضريح فيرجع تاريخه إلى سنة 1889 ميلادية.

رحم الله قلبًا تعلق بأستار السماء، علّه ينول الرضا من المحبوب، وكيف لا وقد من الحب الإلهي فرضًا ونفلًا، وهو القائل: أنتم فروضي ونفلي أنتم حديثي وشغلي.. يا قبلتي في صلاتي، إذا وقفت أصلي.. جمالكم نصب عيني إليه وجهت كلي".

وبالفعل قد وجه كله وغادر تاركًا حبًا لو وُزع على أهل المحروسة وعلى ملايين البشر لوسعهم، وانتشرت تلك الأنوار، وذاق منها المحبون، ووجدوا ضالتهم بها، فكم من عابد رق قلبه لسماع بيت من أبيات "ابن الفارض" شعرًا أو تغنى بها المبتهلون، فسار عابدًا محبًا لا يرجو سوى نظرة الكريم ومدده، وذاك مناهم، ولا ختام خير من قول: "علي" سبط "ابن الفارض": "جز بالقرافة تحت ذيل العارض.. وقل السلام عليك يا ابن الفارض".

اقرأ أيضًا:

فليت الذي بيني وبينك عامر.. الحلقة الأولى: الحلاج.. وللحب بقية

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق