«الإفتاء» تجيب: هل ضمن الإسلام لغير المسلمين حرية العقيدة والعبادة في بلاد المسلمين؟
الإثنين، 20 فبراير 2023 02:00 م
قالت دار الإفتاء، إن شريعة الإسلام أقرت مبدأ الحرية الدينية؛ فلم تُكْره أحدًا على اعتناق دينًا بعينه، وضمنت لأهل كل ديانة أن يمارسوا طقوسهم الدينية في دور عبادتهم في بلاد المسلمين بكل حرية، ومن دون أدنى تعرُّض لهم أو لأيّ شيءٍ من مقدساتهم، وهذا أمر ثابت منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحتى يومنا هذا.
وتابعت: أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لو شاء لخلق عباده على ملة واحدة وسَنَنٍ واحد، ولكن جرت سنته في الخلق على التنوع والاختلاف، واقتضت حكمته استمرار ذلك حتى يرث الأرض ومن عليها؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119]، وقال جل شأنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).
وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المجتمع المدني بناءً جديدًا، وأعاد صياغته بطريقة تقضي على الشتات والفُرقة وتُسرع في الجمع والوحدة؛ فكان إقرارُ مبدأ التعايش بين مختلف القبائل والفصائل والديانات والطوائف في الدولة الإسلامية الأُولى هو أحد أهم أهداف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب هجرته إلى المدينة؛ ليضمَن تنظيم العلاقات بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب الديانات والانتماءات الأخرى من جهة أخرى، في إطارٍ من التسامح الديني والحرية العقائدية في ممارسة الشعائر والطقوس الدينية؛ حيث تميز أهل المدينة وقتَها بالتنوع العرقي والقبلي والديني؛ فكان فيهم المسلمون، واليهود، والعرب المشركون، والمنافقون، وكان غالب المسلمين يتألفون من المهاجرين والأنصار، وكانت الأنصار من قبيلتين متنافستين: الأوس والخزرج.
ولتحقيق ذلك وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم «الدستور الإسلامي»، وأسَّس من خلاله مفهوم «المواطنة»، الذي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى أي انتماء ديني أو عرقي أو مذهبي أو أي اعتبار آخر، وأقام به منظومة التعايش والتسامح بين الانتماءات القبلية والعرقية والدينية، وسُمِّي «بصحيفة المدينة»، أقرَّ فيها الناس على أديانهم، وأنشأ بين المواطنين عقدًا اجتماعيًّا قوامه: التناصر، والتكافل، والمساواة، وحرية الاعتقاد، والتعايش السلمي، وغير ذلك.
ولم يكن هذا المفهوم جليًّا في أي حضارة أو دولة حينئذٍ، ولم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته. وقد ذكر ابن إسحاق في «السيرة» هذا الكتاب بغير إسناد، ورواه أبو عبيد في كتاب «الأموال» بسند جيد عن الزُّهري، كما يقول الإمام الصالحي في «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» (3/ 382، ط. دار الكتب العلمية)، ومما جاء فيه: (هَذَا الْكِتَابُ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَهْلِ يَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، فَحَلَّ مَعَهُمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ: أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ النَّاسِ وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ، يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ... وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ وَمَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.. وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالنَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ جَوْفُهَا حَرَمٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.. وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا الْيَهُودَ إِلَى صُلْحِ حَلِيفٍ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ، وَإِنْ دَعَوْنَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ الدِّينَ، وَعَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ.. وَأَنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ فَلَا يَكْسِبْ كَاسِبٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، لَا يَحُولُ الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَلَا آثَمٍ، وَأَنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمنٌ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، وَإِنَّ أَوْلَاهُمْ بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْبَرُّ الْمُحْسِنُ) اهـ.
وقد اشتمل هذا الدستور على سبعة بنود رئيسية:
الأول: مسئولية الجميع في الدفاع عن الدولة وحدودها ضد الأعداء؛ حيث تقول عن أطراف الوثيقة: «عليهم النصر والعون والنصح والتناصح والبر من دون الإثم».
الثاني: إقرار مبدأ التكافل والتعاون بين الجيران والعصبات؛ بحيث لا يبقى في المدينة محتاج أو ذو ضائقة أو كرب إلا كان له من يقوم بشأنه؛ حيث جاء فيه ذكرُ أن كل طائفة وقبيلة وناحية «على رِبَاعَتِهم؛ يتعاقلون مَعَاقِلَهم الأُولى، وكل طائفة منهم تَفْدي عانِيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين».
الثالث: إقرار مبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وتمثل ذلك في توافق الحقوق والواجبات وتناسقها، وضمان المساواة التامة لمواطني المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة، تحقيقًا لمبدأ «المواطنة الكاملة» لكل ساكني المدينة؛ حيث قال: «وأنَّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة»، وأيضًا: «وإن يهودَ بني عوفٍ أمة مع المؤمنين»، ثم جاء فيه تعدادهم طائفة طائفة، وأن ليهود بني كذا مثل ما ليهود بني كذا.. وهكذا.
الرابع: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد؛ إذ تضمنت حقوق الأفراد جميعًا في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة، وحقوقهم في الأمن والحرية وصون أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودور عبادتهم؛ حيث جاء فيها: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ -أي يهلك- إلا نفسه وأهل بيته».
الخامس: الأمن الاجتماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة؛ حيث قال: «إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى»، كما حفظ حق الجار في الأمن والحفاظ عليه كالمحافظة على النفس؛ حيث قال: «وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم».
السادس: إقرار مبدأ المسئولية الفردية، وتبدأ هذه المسئولية من الإعلان عن النظام، وأخذ الموافقة عليه، وهو ما أكدته الوثيقة بقولها: «إنه لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم».