حمدي عبد الرحيم يكتب: جمال أسعد.. هذا الشبل من ذاك الأسد
السبت، 11 فبراير 2023 06:00 م
عندما يكتب إنسان سيرته الذاتية فإنه يضع نفسه في مرمى نيران الأصدقاء والأعداء والأعدقاء!
وعندما يكون كاتب السيرة سياسيًا فإنه يفتح على نفسه بيديه بوابات الجحيم، وذلك لأن كاتب السيرة أي سيرة هو كالذي يمشى على حد صراط الاعتراف الأليم، فمن يجرؤ على الاعتراف، ومن يجرؤ على المراجعة، ومن يجرؤ البوح والمكاشفة والمصارحة والمصداقية؟
انظر حولك تعرف أن القادرين على البوح ومكاشفة الآخر والذات، قليل ما هم.
وقد فعلها السياسي المصري، الأستاذ جمال أسعد، ونشرت له دار سما سيرته الذاتية "أيامي" شاهد على خمسة عصور.
بداية انتبه للتشابه بين "أيامي" وبين "الأيام" عمدة السير الذاتية الذي خطه عميد الأدب العربي، فعلى منوال العميد ينسج جمال، ولا فرق في بنية الكتابين سوى في استخدام أسعد لضمير المتكلم واستخدام العميد لضمير الغائب.
حظى الكتاب بأربع مقدمات، الأولى كتبها الأستاذ أحمد الجمال والثانية كتبها الدكتور نبيل عبد الفتاح والثالثة كتبها الدكتور عمار علي حسن، أما الرابعة والأخيرة فقد كتبها صاحب الكتاب نفسه، وجاء فيها أول اعتراف من صاحب السيرة، فقد قص قصة الكتاب، بل قصة حياته في سطور تلك المقدمة الموجزة.
رأس الأمر أن أسعد كتب سيرته استجابة لإلحاح الأصدقاء الذين يرون في حياته ما يجب تدوينه بين دفتي كتاب.
من ناحيته لا يرى أسعد في حياته كل حياته، ما يستحق التدوين، فهو كأقرانه، لم يزعم قط أنه جاء بما لم يأت به الأوائل.
قد يعترض معترض: بأن صاحب السيرة يدعي التواضع ليحصد المديح، ولكن لأني أعرف الرجل على المستوى الشخصي، فأنا أشهد بصدقه في تلك النقطة على وجه التحديد، فكل الذين علموا فعملوا تجدهم إذا عرضت عليهم أعمالهم يهزون أكتافهم في استهتار وهم يقولون: ما هذا، كان يجب علينا ألا نقصر!
نعم العاملون يتهمون ذواتهم دائمًا بالتقصير، وذلك لأنهم في توق دائم للتحليق في الأعالى حيث الاكتمال والصفاء البهي.
أمر النفوس الكبيرة والهمم العالية، عبر عنه أبو الطيب المتنبي، رحمه الله فأحسن التعبير
" عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ".
لا أزعم لنفسي قدرة على تناول سيرة حياة من أربعمئة صفحة شهدت تقلبات وسياسات وصراعات خمسة عصور، في مقال بسيط صغير، فكتاب الأستاذ جمال من الكتب التي من حقها أن تتاح لقراءة عامة هادئة ومتأنية لكي توضع كل النقاط فوق كل الحروف.
ومع عجزي يجب ألا أفلت من بين يدي فرصة الكتابة عن المعنى العام لأسعد، إن إنجاز الرجل الحقيقي أنه من الذين أكلوا وهضموا تجربة الآباء المؤسسين.
ليس خافيًا أن مسيحيي مصر حاصروا ذواتهم في دوائر جد ضيقة، حتى بدا الأمر كأنه عزلة اختيارية، فليس في دساتير البلاد مذ عرفت الدساتير وليس في قوانينها مذ عرفت القوانين ما يفرض على المسيحيين العزلة والاعتزال، ولكن هكذا جرت الأمور، حتى جاء أب مؤسس، أعني ويصا باشا واصف، جاء من طهطا بسوهاج (جمال أسعد من القوصية بأسيوط).
منذ نعومة أظفاره أهتم ويصا باشا بالشأن العام وبالسياسة بمعناها العام وبالحركة الوطنية المجاهدة ضد الاحتلال وعبيده، فوجد نفسه عضوًا قياديًا من أعضاء الحزب الوطني، ومساعدًا للكبيرين مصطفى كامل ومحمد فريد، يحارب في حربهما ويسالم في سلامهما ويضيف إلى الحزب الوطني "اللواء" إضافات ثرية بمقالاته الملتهبة.
نحن سنعرف الأستاذ جمال عندما كان من قيادي حزب العمل الاشتراكي ورفيقًا للكبير إبراهيم شكري وكاتبًا مرموقًا من كتاب جريدة الحزب "الشعب".
ثم جرت في نهر الحزب الوطني مياه عكرة جعلت من الحزب الواحد أحزابًا ( وهذا ما حدث لحزب العمل الاشتراكي ) فذهب ويصا باشا إلى حزب الوفد المصري حيث القيادة التاريخية لسعد باشا زغلول ومصطفى باشا النحاس.
كان ويصا ومعه سينوت حنا ومكرم عبيد هم الآباء الذين حطموا قيود وسلاسل العزلة، منتمنين لوطنهم أولًا ومخاصمين لكل طائفية ومحاصصة.
أجزم بأن الثلاثة كانوا في عين قلب جمال أسعد وهو يخطو خطوته الأولى في بحر رمال السياسة.
سيلعب البرلمان الدور الأبرز في حياة الرجلين ويصا وجمال.
جمال أسعد قالها صريحة مدوية:" لستُ نائبًا عن المسيحيين، أنا نائب عن المصريين".
وصرخته تلك جعلتهم يخوضون فيه شر خوض.
وويصا وقف وقفة الأسود ضد المؤتمر القبطي 1911، فخاض فيه الذين أعمت الطائفية بصائرهم وأطلقوا عليه لقب "يهوذا الاسخريوطى" ونحن نعرف أن يهوذا هو الذي خان المسيح عليه السلام.
جلس جمال أسعد مطمئنًا تحت قبة البرلمان دورتين متتاليتين، ولمَ لا يجلس مطمئنًا راسخًا، وهو الذي جاءت به الانتخابات.
وصعد ويصا لرئاسة البرلمان نفسه مرتتين، وكان البرلماني المصري الأشهر إلى أن وقعت الواقعة.
بتأجيل انعقاد البرلمان شهرا كاملًا يبدأ من يوم 21 يونيو 1930 قرار صدقي أزعج نواب الغرفتين النواب والشيوخ وقد أراد النواب والشيوخ فاتفق عدلى باشا رئيس مجلس الشيوخ ويصا واصف رئيس مجلس النواب على أن مرسوم التأجيل يجب أن يتلى على الشيوخ والنواب فى المجلسين، ولكن صدقي رفض، وكبرت كرة النار ، حتى قرر صدقي إغلاق البرلمان بالسلاسل والجنازير لكي يمنع الأعضاء من دخولهم!
هنا قرر ويصا مباغتة صدقي فأمر شرطة البرلمان بتحطيم السلاسل.
وقد قرأت في مذكرات النحاس باشا أن ويصا قد أمسك ببلطة وشارك في تحطيم السلاسل، فدخل النواب قاعة الجلسة، وأقسموا على الجهاد من أجل الدستور.
وبعدُ فأدعوك لمطالعة الكتاب لتجد التفسير العملي للمثل الشائع :" هذا الشبل من ذاك الأسد".