شخصيتنا في تلك الحلقة هي شخصية مغمورة لا يعرفها الكثير من الناس، ولكنها هي زوجة واحد من أعلام الأزهر الشريف ومفتى الديار المصرية في فترة في غاية الأهمية في تاريخ مصر الحديث، إلا أنه دائما ما كان يتم ذكره بمفرده، المعلومات عنها ضئيلة للغاية، بل تكاد تكون غير موجودة، فقط كى تعرف اسمها فعليك أن تبذل مجهودا كبيرا للغاية لمعرفة الأمر، إنها زوجة الشيخ الراحل محمد عبده مفتى الديار المصرية في مطلع القرن العشرين.
مجهود مضنى وكبير، بذلناه لمعرفة أي تفاصيل أو معلومات عن تلك السيدة، التي تدعى "رضا بنت سعد"، زوجة الشيخ العلامة محمد عبده أحد أبرز قيادات الإصلاح، فعندما يتم الحديث عن الشيخ محمد عبده لا أحد يذكر زوجته والدور الكبير الذى بذلته من أجل أن توفر لزوجها المناخ الملائم كى يصل إلى أعلى المناصب الدينية ويكون رمزيا دينيا لا زال الكثيرين يستندون لأرائه الفقهية رغم مرور أكثر من 100 عاما على وفاته بمرض السرطان، فالطبع وراء كل رجل عظيم امرأة، ولكى يحقق أي رجل نجاحا كبيرا في أي مجال لابد أن تكون زوجته قد ساندته في الوصول لهذا النجاح.
أعمال الخير لزوجة الشيخ محمد عبدهدليلنا في محاولة التعرف على تفاصيل شخصية رضا بن سعد، كان عدد من علماء الأزهر، والذين كان لهم مؤلفات حول أعلام الأزهر الشريف، ليحدثونا عن الشيخ محمد عبده وزوجته، بجانب حفيده الدكتور مالك منصور، والكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة الأسبق والذى كتب مؤلفات عن أعلام الأزهر، وأبرز ما توصلنا له أن السيدة رضا بن سعد كانت شخصية تهتم بأعمال الخير مثل زوجها، فمثلما كان الشيخ محمد عبده في حياته ينفق على الفقراء، كانت زوجته بعد فاته سيدةً كريمةً لا ترد سائلاً، وكانت تنفق أغلب أموال المعاش على الفقراء والمساكين.
زوجة الشيخ محمد عبده تتولى أعمال المنزل وتفرغ زوجها لطريق الدعوةرضا بنت سعد، كانت حريصة للغاية على أن يستكمل زوجها الشيخ محمد عبده طريق الدعوة الذى أصر عليه، منذ التحاقه بجامع الأزهر في عام 1866، خاصة أنه درس في الأزهر لمدة 12 عاما، نال فيه شهادة العالمية عام 1877، فقد كان الشيخ محمد عبده حريصا مشوار الإصلاح الدينى من خلال أراء وأفكار أحدثت ثورة دينية في تلك الفترة، ولكى يتمكن الشيخ محمد عبده من أن يصل لتلك المكانة الدينية، كان لابد من تفريغه لتلك المهمة الصعبة، ودائما ما كان يجد خلفه زوجة تتحمل أعباء المنزل بالكامل، ومشجعة له طوال مشواره الدعوى، بينما تقوم بواجباتها المنزلية على أكمل وجه وتدبر كل ما يتعلق بمعيشة المنزل كى يتفرغ الشيخ للمسئولية المهمة فى العمل الدعوى.
لم تكن حياة الشيخ محمد عبده سهلة، بل واجه معاناة وتحديات كثيرة خاصة أنه كان من بين المشاركين في الثورة العرابية، ليتم نفيه خارج البلاد، لتجد رضا بنت سعد نفسها أمام مسئولة تحمل مسئولية المنزل في ظل نفي زوجها، وتدير منزلها على أكمل وجه، ليجد الشيخ محمد عبده نفسه بعد عودته لبلاده وقد وجد منزله كما تركه قبل النفي وأكنه كان متواجدا فيه، وخلال نفى الشيخ محمد عبده، سافر الإمام إلى لندن بعد مشاركته في الثورة العرابية، ونزل في ضيافة صديق مصر وصديق العرابيين الكبير ولفردسكاون بلنت، وفي هذه الزيارة أدلى الشيخ محمد عبده بحديث لجريدة "البول مول جازيت، هاجم فيه الاستعمار البريطاني، وطالب بجلاء الإنجليز عن مصر، كما هاجم الخديوى توفيق أعنف هجوم، وقال - حين سُئل عن السياسة التي يجب أن تسير عليها بريطانيا في مصر- إن كل إنجليزي لقيناه يؤكد لنا أنه يريد الخير لمصر، ولكن أين هم رجال السياسة عندكم الذين حاولوا تأييد تصريحاتهم وتأكيداتهم؟ إننا معشر المصريين من أرباب حزب الحرية، كنا نظن أن الإنجليز يناصرون قضية الحرية، ولكننا لم نعد نعتقد بمثل هذه الظنون، فإن الحقائق أقوى وأبلغ من الكلام، إننا نرى أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وأن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمَل، لقد قضيتم على عناصر الخير فينا، لكي يكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلدنا".
الشيخ أحمد ربيع الأزهرى يكشف موقف الإمام المراغى مع زوجة الشيخ محمد عبدهتواصلنا مع عدد من علماء الأزهر الشريف، كى نتوصل لبعض المعلومات عن زوجة الشيخ محمد عبده، من بنيهم الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، أحد علماء الأزهر الشريف، وأبرز من أصدر كتبا وكتب مقالات حول أعلام الأزهر عبر تاريخه، والذى كشف من خلال إحدى كتبه عن أعلام الأزهر موقفا جليلا للإمام المراغى مع زوجة الشيخ محمد عبده.
ويقول الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، متحدثا عن الموقف : " عبد الحميد رشوان،سكرتير محكمة عموم السودان، وقد رافق الإمامَ المراغيَ أربعين سنة- قال: كانت السيدة "رضا بنت سعد" حرم الإمام محمد عبده تتناولُ معاشاً شهرياً قدره جنيه ونصف فقط من الحكومةِ، وبعض مرتبات من الجمعية الخيرية الإسلامية والخاصة الملكية، لا يتجاوز في مجموعها ثلاثين جنيهاً، وكانت سيدةً كريمةً لا ترد سائلاً، وكان يترددُ عليها كثيراتٌ من المحتاجاتِ حتى ركبتها الديونُ واستدانت أكثرَ من ثلاثمائةِ جنيه.
ويضيف الشيخ أحمد ربيع الأزهرى: " سكرتير محكمة عموم السودان قال إنه كانت هناك سيداتٌ كريماتٌ منهن والدةُ المغفورِ له محمد محمود باشا يساعدن زوجة الشيخ محمد عبده على سبيل القرض، حتى استبد بها الحال، علمتُ هذا، فأبلغتُه للأستاذِ الإمامِ المراغي في منزلِه بحلوان، فهاله الأمرُ وأمرني بالتثبت فأكدتُه له، وكان صاحبُ المقامِ الرفيعِ على ماهر باشا وزيراً للمالية، وصاحب الدولة محمد محمود باشا رئيساً للوزراء، فاتصل بهما، وبعد يومين طلبني الأستاذ، وقال أخبرْ السيدةَ أن المعاشَ رُفِعَ إلى خمسةَ عَشَرَ جنيهاً، وبعد أيامٍ قليلة طلب مني أن أرافقَه البسفور وذهبنا معاً إلى عين شمس، ولم يخبرْني طوالَ الطريقِ عن غرضِه، واستأذن على السيدةِ التي قابلته ومَكَثَ معها أكثرَ من نصف ساعة بمنزل المرحوم حمودة بك عبده، ثم انصرف ولم يحدثن بما فعل، ولما مررنا على منزل الأستاذ الشيخ محمد عبده.. نظر إليه متأثراً وقال: كان هذا المنزل محطَ الآمال، وأملَ كُلِّ طالبٍ.
ويتابع الشيخ أحمد ربيع الأزهرى: سكرتير محكمة عموم السودان إنه علم بعد ذلك من السيدةِ زوجة الشيخ محمد عبده-رحمها الله- أنَّ الإمام المراغيّ طيَّب خاطرَها واعتذر لها بأنه لم يكن يعلم حالَها، ووضع في يديها خمسمائة جنيه لسدادِ ديونها وسدّ حاجاتها، وطلب منها أن تخبرَه عن كل حاجاتِها بعد، ولكنَّ الموتَ عاجلَها فقد كانت مريضة، بعد أن قامت بسدادِ ديونها، وعاشت بقيةَ أيامها في حالة يُسْرٍ ورخاء.
تخصيص الشيخ مصطفى عبد الرازق معاشا لزوجة الإمام محمد عبده
ويقول الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، : لقد سعى شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق إلى وزارة الأوقاف عقب وفاة الإمام لتحدد معاشًا مقبولًا لزوجة الشيخ الذي لم يترك لها شيئا، كما قرر الشاعر عبد المحسن الكاظمي أنه عُدم التصبر بعد وفاة الإمام لأنه كان يمنحه مرتبًا شهريًا قد انقطع بوفاته، ولعل ذلك ما أشار إليه حافظ إبراهيم فى رثائه للإمام حين قال:
بَكَيْنا على فرد، وإن بكاءنا***على أنفس فى الله منقطعات
تعهدها فضل الإمام وحاطها***بإحسانه والدهر غير موات
وفى تصريحات خاصة ، قال الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، إن الكتب التي تحدثت عن الشيخ محمد عبده، لم تذكر كثير عن زوجته والحياة الأسرية للإمام، ولكن كل الحديث كان عن أعمال السيدة رضا بن سعد الخيرية التي واصلت الأعمال الخيرية التي كان يقوم بها زوجها.
وأضاف الشيخ أحمد ربيع الأزهرى، أن من المواقف المشهورة لزوجة الإمام محمد عبده هو تخصيص شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق معاشا لها، بعد نفاذ أموال الشيخ بجانب الموقف الطيب للإمام المراغى الذى طيب خاطرها ووقف بجانبها حتى توفقت نتيجة المرض.
حفيد الإمام محمد عبده: تزوج السيدة رضا بتوصية من زوجته الأولى قبل وفاتهاحاولنا التواصل مع أحد أحفاد الإمام محمد عبده، وبعد أيام طويلة من البحث، توصلنا للدكتور مالك منصور، وهو طبيب أسنان، ويقيم ما بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وتحدثنا معه حول حياة الشيخ محمد عبده وزوجتيه عليا ورضا وتحدث عن كيف تزوج من زوجته الشامية "رضا بنت سعد"، وكان معه الحوار التالى..
السيدة رضا بنت سعد هي امرأة شامية، تزوجها الإمام محمد عبده عندما تم نفسه خارج مصر وعاش في بيروت حينها، ففي البداية تزوج الشيخ محمد عبده بالسيدة عليا، وولدت له جدتى، وتوفت بمرض حمى النفاس، بعد أسبوع من ولادتها لابنته، ووصته بأن يتزوج من بيت "سعد"، والى كانت ابنته رضا، فتزوج جدى الشيخ محمد عبده بالسيدة رضا بن سعد.
أي أن زواج الشيخ محمد عبده كان بعد وفاة زوجته الأولى؟
نعم.. السيدة عليا هي من أوصته بالزواج لأنها توفيت وهى صغيرة وتركت له طفلة رضيعة، وتزوج وهو في بيروت من السيدة رضا، وعندما عاد إلى مصر سكن هي والسيدة رضا بن سعد في عين شمس، ولقد زرت هذا البيت مع جدتى وهى ابنته من السيدة عليا.
هل كان للإمام محمد عبده أبناء من السيدة رضا؟
نعم.. السيدة رضا انجبت له أبناء وكانت إحدى بناته تشارك في مظاهرات سعد زغلول ضد الإنجليز، وكانت له ابنة أخرى ضريرة ولها نسل يعيش في الإسكندرية .
كيف ترى قيام الشيخ مصطفى عبد الرازق والإمام المراغى بدعم زوجة الشيخ محمد عبده بعد وفاته؟
هذا شيء طبيعى فهم كانوا من تلاميذه، كما أن سعد زغلول أيضا كان من تلاميذه، وقيام الشيخ مصطفى عبد الرازق، بتخصيص معاش للسيدة رضا بنت سعد، وكذلك دعم الإمام المراغى لزوجة الإمام محمد عبده بعد وفاته يأتي في إطار دعم التلاميذ لأسرة استاذهم، ولكن لا أعرف كثيرا عن حياة السيدة رضا سوى ما حكته لى جدتى.
حلمى النمنم: الأميرة نازلى فاضل كان لها دورا كبيرا في حياة الإمام محمد عبده
زاوية أخرى تطرق لها الكاتب الصحفي حلمي النمنم، وزير الثقافة الأسبق، وهو صاحب كتاب "الأزهر الشيخ والمشيخة" والذى تحدث فيه باستضافة عن الإمام محمد عبده، لذلك تواصلنا معه ليتحدث معنا عن أكثر من دعم الشيخ محمد عبده.
وفى تصريحات خاصة قال وزير الثقافة الأسبق، إن الأميرة نازلى فاضل كانت أبرز سيدة لها دور كبير في شخصية الإمام محمد عبده ولعبت دورا حاسما في دعمه، فهى ابنة الأمير مصطفى فاضل، وكانت سيدة مثقة بشكل كبير ومتفتحة، وتلقت تعليمها في الخارج، وكان لها صلات وعلاقات بشخصيات مصرية وأوروبية عريقة.
وحول كيف دعمت الأميرة نازلى فاضل الإمام محمد عبده، قال حلمى النمنم: الأميرة نازلى فاضل كانت تنظم صالون ثقافى كبير يحضره كبار القوم حينها، وكان بينهم الإمام محمد عبده، وكانوا يناقشون الكثير من القضايا والأفكار، وبالتالي ساهمت الأميرة نازلى فاضل في فتح الأفكار الحديثة لدى الإمام محمد عبده، وكان الصالون يناقش القضايا السياسية والفكرية وكانت هذه مسألة مبكرة للغاية في هذا العصر، وبالتالي كانت الأميرة نازلى فاضل لها الفضل الكبير في دعم الإمام محمد عبده.
وحول أسباب دعم الأميرة نازلى فاضل للإمام محمد عبده، يقول وزير الثقافة الأسبق: عائلة الأميرة نازلى فاضل كانت ضد الخديوى توفيق، والذى ثار الشيخ محمد عبده ضده ضمن قيادات الثورة العرابية، وسبب وقوف عائلة الأميرة نازلى فاضل ضد الخديوى توفيق لأن الخديوى إسماعيل دفع رشاوى لتعديل نظام التوريث في الحكم ليكون من أسرة محمد على من أبناء الخديوى إسماعيل، وبالتالي ضيع الفرصة أمام الأمير مصطفى فاضل والد الأميرة نازلى واستبعده من الحكم بسبب الفرمان العثمانى الذى دفع له الخديوى إسماعيل رشاوى.