أزمة 57357 والدروس المستفادة
الأحد، 25 ديسمبر 2022 10:27 ص
استيقظنا جميعا على خبر متداول على جميع صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مفادة أن مستشفى ٥٧٣٥٧ لعلاج سرطان الأطفال بالمجان تتعرض لأزمة مادية كبيرة ونقص في التبرعات مما قد يؤدي لإغلاق أبوابها أمام المرضى.
بعيدا عن أي لغط أو تفاصيل أو اختلافات في الآراء لا يمكننا إنكار أن المستشفى كانت ملاذا مجانيا لعلاج الكثير من الأطفال، وعليه وجب مبدئيا التفكير بداية في كيفية الخروج من الأزمة الحالية، ولكن الأهم هو الاستفادة من هذه الأزمة في إيجاد أفكار مختلفة لتفادي تكرارها سواء مع مستشفى ٥٧٣٥٧ أو غيرها من المستشفيات والمؤسسات الخيرية التي تقدم علاج وخدمات مجانية لغير القادرين.
أولا أود هنا أن أتحدث عن جدوى الحملات الإعلانية التليفزيونية مدفوعة الثمن، والتي تهدر الملايين من الجنيهات التي كان من الممكن الاستفادة منها بشكل أفضل كثيرا في الانفاق على المستشفى وعلى علاج المرضى.
في الماضي لم تكن هناك وسيلة متاحة للوصول للجماهير سوى الإعلانات التليفزيونية وكان اللجوء إليها أمرا حتميا، أما اليوم فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت بديلا أوفر وأسرع وأسهل في الوصول للفئات المستهدفة وغير المستهدفة بالإعلانات أو بالحملات الخاصة بجمع التبرعات، وأكبر دليل هو ما حدث وقت الأزمة، فعبر هذه التقنية الحديثة أصبحت ٥٧٣٥٧ مثار حديث الجميع في الداخل والخارج خلال ساعات دون إنفاق ولا هدر لموارد المستشفى ولا لأموال وتبرعات أصحاب القلوب الرحيمة.
لذا أتمنى أن تبدأ جميع الجهات الخيرية التي تبحث عن التبرعات في استبدال الحملات المدفوعة على القنوات التليفزيونية بحملات مجانية أو قليلة الثمن على وسائل التواصل الاجتماعي سواء فيس بوك أو انستجرام أو تويتر أو واتس أب وغيرها من الوسائل الالكترونية التي تصيب الهدف بأقل تكلفة وأسرع وقت ممكن ، وهو ما سيعطيها مصداقية أكبر لدى المتبرعين.
ثانيا أتصور أنه قد آن الأوان للتفكير الجدي في تقديم الخدمة المجانية لمستحقيها فقط، أو لمن يقبل أن يتلقاها بشكل مجاني رغم استطاعته تحمل تكاليف العلاج فالأمر عائد إليه، بالطبع من حق أي مواطن دافع للضرائب أن يحصل على علاج مجاني، لكن ومن خلال استماعي لحالات كثيرة من المقتدرين فهناك العديد ممن طالبوا بدفع تكلفة العلاج مقابل إيجاد سرير أو مكان يمكنهم فيه تلقي نفس مستوى العلاج بشكل فوري إلا أن هذا الحل لم يكن مسموحا به، فتلك المستشفيات بدافع المساواة بين الجميع ترفض تلقي تكلفة العلاج وتسمح فقط بالتبرعات مع الانتظار في قائمة الأدوار، ما يضطر المقتدرين للجوء للعلاج بالخارج بالرغم من كفاءة أطباءنا ووجود صرح طبي متميز على أرض الوطن فلا منهم تبرعوا ولا دفعوا تكلفة علاجهم لتستفيد منها المستشفى، وبالتالي استفادت دول أخرى بأموال المصريين.
بالإضافة إلى خروج كميات كبيرة من العملة الصعبة خارج البلاد، ومن هنا فلا نحن حققنا هدف المساواة بين المرضى في تلقي العلاج، ولا استفدنا بأموال المرضى المصريين المقتدرين في إعادة استثمارها لعلاج غير المقدرين، ولا أكدنا للجميع أن كل مصري يستطيع تلقي العلاج في وطنه كل حسب إمكانياته وظروفه.
الأصل في أي خطوة أو قرار دائما يكون الفائدة العامة، فإن كان البعض يرى أن العدل يقتضي أن لا يشعر غير القادر بأن القادر تم علاجه أسرع من غير القادر، ففي تصوري أن هذا الاسلوب في التفكير يضر أكثر مما ينفع وبخاصة بالنسبة للفئات المحتاجة للعلاج المجاني، فمنذ بدء الخليقة هناك اختلافات مادية بين البشر لذا فرض الله الزكاة وحبب الصدقة إلى النفوس، لأنه يعلم أن البشر منهم الأغنياء ومنهم الفقراء، وإن أردنا إرضاء البعض بوقف العلاج مدفوع الثمن من باب المساواة في الداخل، فسيحصل القادر على علاجه بالخارج ولن يحصل الغير قادر على علاجه بالداخل، وبالتالي سيخسر الجميع ولن يعد هناك فائز في مثل هذه القضايا.
لذا فبنظرة عملية بحتة ومنطقية أتصور أنه لو تم تخصيص قسم استثماري هادف للربح في كل مستشفى خيري مجاني، يلجأ إليه القادرون ممن يرغبون في العلاج داخل مصر مقابل دفع تكلفة العلاج، فإن الفائدة ستكون مزدوجة ودبل ومتعددة، فأرباح القسم الاستثماري سيتم ضخها في القسم المجاني ليستفيد غير القادرين بزيادة عدد الأسرة والأجهزة وإتاحة الفرصة لعلاج أعداد أكثر، وأيضا ستساعد في العملة الصعبة التي تخرج من مصر تحت بند العلاج بالخارج، ورحمة المواطن القادر من الغربة والتشتت الأسري للبحث عن العلاج بالرغم من وجوده وجودته في الداخل إلا أن الأزمة والعقبة الوحيدة أمامه تظل هي قوائم الانتظار بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية!
وكتعظيم لموارد تلك المؤسسات أيضا يمكننا تخصيص مبان أو أقسام للراغبين في تلقي العلاج على أرض مصر من الدول العربية والخليجية المجاورة من القادرين الراغبين في العلاج في مصر، خاصة في ظل الظروف العالمية الحالية وأزمة نقص الطاقة والإضرابات في الدول الأوروبية، والعديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية في بعض الدول العربية، وبالتالي جذب المزيد من العملة الصعبة ، وإعادة الثقة في الأطباء والمؤسسات الطبية المصرية التي كانت لسنوات رائدة على مستوى الوطن العربي، وتعظيم موارد تلك المؤسسات وتنويع مواردها ما بين التبرعات والعلاج الاستثماري.
وبدلا من أن تغلق هذه الصروح العلمية العلاجية أبوابها في وجه جميع المرضى سواء قادرين وغير قادرين، من باب تحقيق العدالة الاجتماعية التي تحولت لعدالة في التوقف عن تقديم العلاج للجميع بدلا من تقديمه للجميع، فعليها تغيير فكرها وأسلوبها في تقديم الخدمة ومحاولة نشر هذا الفكر الجديد وتوضيح فوائده حتى تُزيل أي احتقان نفسي بين الطبقات المختلفة مستقبلا.
هناك خطوة هامة جدا أيضا يجب أن يضعها المسؤولون عن إدارة تلك المؤسسات وهي حق المتبرعين في الاطمئنان بأن تبرعاتهم تذهب للمستحقين فعلا، ولن يحدث هذا دون شفافية كاملة، فإن كانت تلك المؤسسات جادة في الاستمرار في تلقي تبرعات أهل الخير، فعليها بشكل دوري تلقائي بإعلان ميزانياتها للجميع من موارد ومصروفات معلنة بشكل رسمي واضح تحت رقابة الجهات المختصة، مما يساعد كل متبرع في معرفة مصير تبرعاته، فالتبرعات أمر اختياري، ولن يستطيع أحد إجبار أي شخص على التبرع ولو بقرش واحد إلا للجهات التي يثق بها المتبرع تمام الثقة.
وختاما .. كلي قناعة بأن خطوات كهذه وغيرها من الأفكار المطروحة على الساحة إن تم أخذها في الاعتبار والبدء في تنفيذها كفيلة بأن تساعد في عدم تكرار أزمة التمويل للمؤسسات الخيرية إن كانت راغبة في الاستمرار والنجاح.
وها نحن اقتربنا من شهر رمضان المبارك والذي يعتبر موسم الإعلانات والحملات التليفزيونية الرهيبة المدفوعة، والتي تهدر الملايين لجمع تبرعات ربما لن تعوض ما تم إنفاقه على تلك الحملات، وأتمنى من كل قلبي أن نلمس تغيرا في الفكر الدعائي والتوجه للوسائل الإعلامية البديلة التي تصل للناس بشكل أسرع وأوسع وتساهم في تعظيم الموارد بدلا من أن تهدرها.
والله المستعان..