حمدي عبد الرحيم يكتب: زمن الولع بـ «مفيد فوزي»
السبت، 10 ديسمبر 2022 06:00 م
- رحل الأستاذ ليكتب سطر النهاية في حياة صاخبة ثرية بالهزائم والانتصارات ويكفيه أن اسمه لم يكن من الأسماء العابرة
كان من سوالف الأقضية أني ولدتُ لأسرة، ترى أن شراء الجرائد والمجلات والكتب، من البديهيات التي لا تقبل نقاشًا.
في ذلك الزمان لم تكن الجرائد سوى الجرائد الكبرى اليومية، الأهرام والأخبار والجمهورية والمساء، ومع كثرة المجلات فلم يكن يدخل بيت أبي سوى روز اليوسف وصباح الخير.
ولأن البيئة الصعيدية هى ما نعرفه عنها من فقر أسباب الترف ومسالك اللهو، فقد أصبحت القراءة هى مجال لعبي ولهوي.
تعلقت بمجلة صباح الخير، ومن صباح الخير دخلت مرحلة الولع بكتابات الأستاذ مفيد فوزي.
كان له في السبعينات بابان ثابتان، الأول كان بعنوان "شيء ما" وكان يوقعه باسم "نادية عابد".
لم أحب ذلك الباب، فنادية عابد هذه، غير ما أعرف من نساء، إنها امرأة مترفة، تعاني من مشكلات غامضة، تتعلق بأن حبيبها لم يعد يضحكها، ولذا فقد هجرته!
الفتي الصعيدي لا يفهم أمورًا كهذه.
وقد سألت أخي الكبير: مَنْ نادية عابد هذه التي تحرص المجلة العظيمة على نشر باب لها في أولى صفحاتها؟
فضحك ثم قال: نادية لا وجود لها، إنه الأستاذ مفيد فوزي يتقمص شخصية امرأة في الأربعين من عمرها، وهذه حيلة من حيل الكُتّاب قد تجربها يومًا ما!
الباب الثاني فكان بعنوان "سماعي" وكان يوقعه باسمه الصريح، وكان الباب مكونًا من فقرات، قصيرة جدًا ومدببة جدًا، كان مفيد قادرًا على تقديم كامل رأيه في فقرة من ثلاثة أسطر فقط لا غير، وكانت الفقرات تبشر أو تنفر، تمدح أو تقدح، تساند أو تهدم، كانت أنفاسي تتقطع وأنا أسابق الفقرات، ما كل هذه السرعة، ما كل هذا الإيجاز؟.
في فقرة واحدة يهدم صرح حسين فهمي، الذي كان فتى فتيان ذلك الزمان فيكتب عنه "حسين فهمي.. فنجان قوة سادة بارد".
هذه ليست فقرة إنها طلقة مصوبة بإحكام في منتصف الجبهة.
يدعم الشابة الصاعدة يسرا فيكتب: "إنها يسرا.. عود الحطب المشتعل فنانًا"، وكانت يسرا أيامها نحيفة جدًا.
في تلك الفقرات المختصرة التي تخاصم الثرثرة والتطويل كان قادرًا على تعريفنا بأساتذة عاصر زمن فتوتهم ولمعان أسمائهم، يكتب عن الأخوين أمين، مصطفى وعلي وعن محمد التابعي وعن هيكل وعن أحمد بهاء الدين وعن موسى صبري.
في مطلع الثمانينات كانت رئاسة تحرير صباح الخير للأستاذ لويس جريس، الذي ساهم بحنكته في زيادة تألق المجلة التي كنا ندللها باسم "الصبوحة" التي كانت تنشر أسبوعيًا، رواية بهاء طاهر "لو نموت معًا" التي سنعرفها باسم شرق النخيل، ومعها فنون حجازي ورؤف عياد وزهدي وكثرة من فناني الكاريكاتير العظماء، ومقالات لزينب صادق وصبري موسى وسهام ذهني وماجدة الجندي ومنير عامر وعلاء الديب، زحام من الفن الصافي، وفي تلك السنوات كان الأستاذ مفيد يتألق في حوارات غير مسبوقة.
فهو الذي دشن أسطورة عادل إمام عندما حاوره على مدار حلقات طويلة ونشر الحوار تحت عنوان رئيس هو "أغلى نجم في مصر" كان عادل أيامها يحصل على مئة ألف جنيه في الفيلم الواحد!
وفي ذلك الحوار ظهر جانب الأستاذ المعلم من شخصية مفيد، فهو في أيامها كان مخلصًا لقواعد المهنة، كان إذا حاور أحدهم أعد للحوار كأنه يعد لكتاب، كان يجمع شتات شخصية الذي يحاوره ويعرف عنه أدق التفاصيل ويباغته بها ويرسم مسرح الحوار، ويجعل من الحوار مع الفرد رواية متعددة الأبطال والشخصيات، فهو الذي جعل عادل إمام يتحدث كما لم يتحدث عن حي الحلمية مقدمًا دفقة من المشاعر الحارة الصادقة عن أسرته وأصدقاء طفولته وأول شبابه وعن أحلام جيله ، وعن صراع سياسى شهدته الحلمية بعيد ثورة يوليو.
عادل إمام الذي تحدث كثيرًا بعدها، لم يتحدث كما تحدث مع مفيد، وعليه فنجاح الحوار يكون للأستاذ مفيد أولًا.
ثم حاور بطلة فرقة رضا، الفنانة الكبيرة فريدة فهمي، فقرأنا من خلال الحوار قصة صعود الطبقة الوسطى في زمن عبد الناصر، حتى أن والد فريدة أستاذ الجامعة يقول: "ابنتي ليست راقصة، ابنتي شيخة طريقة".
في زمن تألق حوارات مفيد كانت الصحافة المصرية تملك ترف إرسال المتميزين من محرريها إلى رحلات طويلة في الخارج أو الداخل، فقد بعثت بمحررها الشاب الصاعد الواعد جمال بخيت في رحلة إلى أقصى الصعيد لكي يتلقي بشعراء كانوا شبانًا ثم سيصبحون رأس مال الصعيد الشعري، من رحلة جمال بخيت تعرفنا على عزت الطيري وعبد الستار سليم ومصطفى رجب وغيرهم من شعراء الصعيد الذين لم يلبوا نداء نداهة القاهرة.
ثم بعثت المجلة بمفيد فوزي ومعه الفنان العظيم جمال كامل إلى إيطاليا، مفيد يحاور وجمال يرسم، أي عظمة تلك؟
حاور مفيد مشاهير إيطاليا في كل مجال، باولو روسي نجم كرة القدم ومحرز بطولة كاس العالم لمنتخبه في العام 1982 وهداف البطولة، الذي كان أيامها يملأ الدنيا ويشغل الناس.
وكان الحوار من الحوارات التي تُدرس، فمفيد الذي كان يقول إنه لا يعرف كرة القدم مثل ما يعرفها محمود السعدني، كشف بأسئلته أنه يعرفها جيدًا بل مولع بها.
ثم حاور نجمة السينما كلاوديا كاردينالي، وقد كان جرئيًا جدًا عندما سألها عن سر افتتانها بنهديها، فضحكت قائلة" إنهما نهدان عربيان، أنضجتهما شمس تونس التي ولدت بها".
ثم رأى الرئيس الأسبق حسني مبارك إن يفرج عن أغاني أم كلثوم وعبد الحليم السياسية التي غنياها في زمن عبد الناصر.
فظهر مفيد فوزي معدًا ومقدمًا لبرنامج خاص بثته القناة الأولى عن أم كلثوم، فبدأ مرحلة جديدة من التألق في إعداد وتقديم البرامج الخاصة، لأنه أعد وقدم برنامجًا خاصًا عن عبد الحليم، ظني أن العرب جميعًا من المحيط إلى الخليج قد شاهدوا ذلك البرنامج.
كان الأستاذ مفيد في كل إطلالة تلفزيونية يقدم الدرس، درس، مذاكرة الموضوع والاهتمام بأدق التفاصيل والتأنق في استخدام اللغة والبعد عن بذاءة العادي والمألوف.
ثم ما تم أمر إلا ونقص، فقد جرت في نهر ولعي بمفيد فوزي مياه كثيرة جعلتنا نفترق، فهو لم يعد يحرص على المذاكرة والإخلاص لقواعد مهنة يعرفها جيدًا وأنا بدأت أعرف الكثير عن أسرار انقلابات الكًتَاب على أعقابهم.
ثم جاء رحيل الأستاذ مفيد يوم الرابع من ديسمبر 2022 ليكتب سطر النهاية في حياة صاخبة تواصلت لتسعة وثمانين عامًا، كانت ثرية بالهزائم والانتصارات، ولكن يكفيه أن اسمه لم يكن من الأسماء العابرة فقد حفر بأظافره فوق جدار الأيام "مفيد فوزي مر من هنا".