أين حق الطناحي والعبادي؟
السبت، 15 أكتوبر 2022 08:47 م
الذين وهبوا العلم أعمارهم يجب أن تصبح كتبهم من المقررات الدراسية وأن تعلو سيرتهم على سير أهل الثرثرة
كنت قد سمعت الكثير عن عظمة مكتبة الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى نبيل "1938ـ 2011". كان الأستاذ مصطفى، رحمه الله، رئيسًا تاريخيًا لمجلة الهلال العريقة، وكنت شابًا في بدايات عملى الصحفي، ولكن تباعد المكانتين لم يحل بيني وبين الاتصال التليفوني به، طالبًا "الفرجة" على مكتبته.
وصلتني ضحكته المتعجبة المرحبة.
ذهبت إليه في شارع من شوارع حي المهندسين، أحسن الرجل الكريم استقبالي، كأنني واحد من قدامى أصحابه .
أما عن المكتبة فقد رأيت ما لم أكن قد رأيته، مكتبة شخصية عظمى تحتل كامل مساحة شقة كبيرة، من الأرض إلى قرب السقف.
أهداني بكرمه ثلاثة كتب من مؤلفاته، لكي تكف عيناي عن التلمظ.
جلست لاهثًا من شدة انبهاري بالمكتبة، ثم سألته: مًنْ تحب من كُتّاب الهلال؟.
قال: أحب كل كُتّاب الهلال، ولكن لصافي ناز كاظم وحسن سليمان وشكري عياد وكمال النجمي مكانة خاصة في قلبي.
ثم راح يذكر أسماء كثيرة من مختلف أجيال كتاب الهلال.
كنت أيامها في أول تعلقي بالفذ الدكتور محمود الطناحي، وكنت منتظرًا سماع اسمه من فم الأستاذ مصطفى، ولما لم يذكره، تعجبت فسألته: وأين الدكتور محمود الطناحي؟
ضحك ثم قال: سألتني عن الكُتّاب، والطناحي ليس منهم.
سارعت بمقاطعته: كيف؟
بهدوء أجاب: الطناحي عابر للتصنيفات، ابن نكتة دسمة تظنه الجاحظ وقد بعث من مرقده، وابن فن يحدثك عن الشيخ مصطفى إسماعيل وعن الموسيقار محمد عبد الوهاب فيلفت نظرك إلى كنوزهما، ثم إذا تحدث عن مهارات التدريس الجامعي جعلك تتمنى العودة إلى مقاعد التلمذة لكي تقرأ بين يديه أمهات الكتب، ثم هو محقق فذ ومنشئ صاحب أسلوب خاص، لا يقلد أحدًا، ولا يستطيع أحد تقليده.
غادرت مجلس الأستاذ النبيل مصطفى نبيل، وكأن معي مفاتيح جديدة لشخصية الدكتور الطناحي.
مرت السنون فظننت أن كل شيء قد سقط في جب النسيان، فقد رحل الطناحي مبكرًا وتبعه مصطفى نبيل، ولم أعد أسمع شيئًا عن مكتبته العظمى، سائلًا الله عز وجل أن يكون قد جنبها مصير مكتبات عظماء، تركوا كنوزًا بعثرتها يد الزمن.
فجأة عادت الذكريات القديمة تطفو فوق سطح الذاكرة، فجأة احتفل الخواجة "جوجل" بذكرى العالم الجيل الدكتور مصطفى العبادي، فهب كثيرون يسألون: من يكون العبادي الذي يحتفل به جوجل؟
لا حول ولا قوة إلا بالله، سؤالهم طعنني ، لأن أحدهم كان قد سألني مرة: مًنْ محمود الطناحي الذي تجمع كتبه؟
لقد قالها الطناحي وكأنه يقرأ المستقبل: "حُظوظُ الكُتبِ كحُظوظِ الناسِ، يُصيبُها ما يُصيبُهم من ذُيوعٍ أو خُمولٍ".
ولو كان قد قال: "حظوظ الناس كحظوظ الكتاب" لأصاب المعنى ذاته.
بالمفاتيح التي قدمها لي الأستاذ مصطفى نبيل، وبعكوفي على كتب شيخ العربية محمود شاكر، تعرفت على الدكتور الطناحي، فوجدته فوق وصف الأستاذ مصطفى.
يكتب بغزارة من يشعر بدنو أجله، يعمل بقوة عشرة رجال، إن داعب أضحك وإن ضرب أوجع، يهجم على موضوعه مسلحًا بمعرفة دقائقه، فيبسطه للقراء وقد أصبحت أعقد القضايا بين يديه في ليونة الماء.
كان الأستاذ حسين أحمد أمين قد شن غارة من غاراته على ذكرى الشيخ الإمام محمود شاكر.
يومها هاتفت الدكتور الطناحي، وقلت له: أنت لها.
قال: هل تستطيع النشر؟
قلت: نعم.
فكتب لجريدة الجيل التي كنت سكرتيرًا لتحريرها، مقالًا رد فيه لشيخه وأستاذه محمود شاكر كل اعتبار وفند فيه كل سطور حسين أحمد أمين، ويومها لزم أمين الصمت فلم يرد بكلمة على الطناحي.
كان مما قاله الطناحي في مستهل مقاله: "أتهاجمون الرجل بعد أن غيبه القبر؟ لماذا لم تردُّوا على الشيخِ كلامه في حياته؟ ما أظن إلا أنكم خِفتم أن يأخذ بأكظامكم، ويأتيكم من فوقكم ومن أسفل منكم، فتزيغ أبصاركم كالذي يُغشى عليه من الموت، ثم يترككم فإذا أنتم ضحكة الضاحك وهُزءة المستهزئ".
تعددت الاتصالات بيني وبينه، ثم تكرم ودعاني لزيارة بيته القائم في مدينة نصر، شكرته ووعدته بتلبية دعوته الكريمة بعد عودتي من زيارة سريعة لبلدتي الصعيدية.
في مارس من العام 1999 كنت في القطار في طريقي لبلدتي، وكنت أتصفح الأهرام، فرأيت نعي الطناحي.
لم أتعلم أبدًا سرعة المبادرة، دائمًا أقع في فخ اكذوبة خلود الأحبة!
رحل الطناحي الذي كان سيتربع فوق عرش شاكر ولكنه ترك ولدًا صالحًا هو الأستاذ الدكتور محمد محمود الطناحي الذي عمل بقول رسولنا الكريم: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه".
فزارني مهديًا لي كتابين من كتب والده الراحل الكريم.
ثم عمل الدكتور محمد على حفظ ثروة والده ولم يضن بها، فأشرف على إعادة طبع كتبه، ونشر مقالات كثيرة جدًا وثرية للغاية لم يكن الراحل الكريم قد ضمنها كتبه.
فقد نشر الطناحي الابن بعد رحيل والده طائفة من الكنوز، منها:
مستقبل الثقافة العربية، كتاب الهلال، دار الهلال، القاهرة.
مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي – صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب – جمعها وأعدها للنشر الأستاذ محمد محمود الطناحي دار البشائر الإسلامية، بيروت.
في اللغة والأدب – دراسات وبحوث – مجلدان – جمعها وأعدها للنشر الأستاذ محمد محمود الطناحي، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين بن الأثير، تحقيق بالانفراد، طبعة ثانية مزيدة ومنقحة، المكتبة المكية، مكة المكرمة.
الغريبين – غريبي القرآن والحديث – لأبي عبيدة الهروي، سبعة مجلدات، طبعة ثانية مزيدة ومنقحة للجزء الأول وطبعة أولى لباقي الأجزاء، دبي.
من أسرار اللغة في القرآن والسنة، دار الفتح، عمان، الأردن.
وهكذا نرى أن كل حضور للطناحي الأب هو من ثمرة صلاح الطناحي الابن الذي يحمي تراث والده كما يحمي الأسد عرينه، ولكن هل جهد الدكتور هو غاية المراد؟
أليس لأمثال الطناحي والعبادي حق على الجامعة وحق على الدولة وحق على المدارس؟
إن هؤلاء الذين وهبوا العلم أعمارهم ولم يكتموا منه شيئًا، يجب أن يكونوا في الصدارة، ويجب ان تصبح كتبهم من المقررات الدراسية، ويجب أن تعلو سيرتهم على سير أهل الثرثرة الذين لم يقدموا نافعًا.