زحام الهوية
السبت، 01 أكتوبر 2022 11:00 م
لو كل يوم فتحت المتاحف أبوابها بالمجان للمصريين ما ملّوا من زيارتها، وجاءوها من كل حدب وصوب، ليروا عظمة الأجداد وروعة التاريخ. والأدلة على ذلك كثيرة.
في الاحتفال بمرور 200 عام على اكتشاف علم المصريات، احتشد المصريون أمام متاحفهم ومناطقهم الآثرية المفتوحة، ولم تكن لديهم غضاضة في الوقوف لوقت طويل في طوابير منتظرين دورهم.
سأحكي لك تجربة شخصية لزيارة المتحف المصري بميدان التحرير.. حقيقة كنت متوجساً من الدخول، ليس خوفاً ولكنها رهبة جميلة، تحوم في محيطه ريح قديمة تناديك، كما لو أنها تحفظ اسمك.
ما أن وطأت قدمي المتحف وسرقتني تلك الريح، ترشدني لكل ركن وتمثال وقطعة أثرية، تستقبلك استقبال المشتاق لابنه، لو تركت نفسك لظللت واقفاً لساعات أمام تمثال واحد، درجة أن وجدت أحدهم يشبهني.
لن أستفيض في الحكي، فمئات المصريين عاشوا التجربة بأنفسهم يوم الثلاثاء، زاروا أجدادهم، فلم تكن هناك تذاكر تمنعهم، أو أسوار تقف بينهم، زاروها بالمجان، ضمن احتفالات الدولة بعلم المصريات.
في الذكرى الـ 200 تم فتح المتاحف مجاناً للمصريين وكافة الجنسيات، وشهدت حالة من الزحام والإقبال الكبير، في مشهد أقرب لزحام رائع، ولروح الجمهورية الجديدة.
إن المصريين لأشد حاجة لاستعادة هويتهم التي حاول الكثير مسخها على مدار عقود وسنوات، يقول الدكتور محمود عبد العزيز، باحث دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، في مقال نشرته مجلة السياسية الدولية في 2 نوفمبر 2021، إن الأحداث التي تلت اعتلاء تنظيم الإخوان الإرهابي قمة السلطة السياسية في مصر، والتي تزامنت مع سياسات خارجية وداخلية حاولت زعزعت وحدة النسيج الاجتماعي المصري، وأضرت بالمصالح القومية.
"وقد بدت مصر كأنها تسير باتجاه اتخاذ هوية أكثر بعداً وغرابة عن أصولها الوطنية، بشكل يؤدى إلى اقتلاعها من جذورها التاريخية الضاربة في عمق التاريخ، وبروافدها الحديثة التي أرستها ثورة 1919، التي رسخت بما لا يدع مجالا للشك الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي الوطني، وبرزت ملامح الأمة المصرية، أمة موحدة تطالب باستقلال الوطن/الأرض/والشعب، وكذلك ثورة 52 التي أرست قواعد الجمهورية الأولي بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر الذي صبغ مصر بصبغة عربية وقومية، كانت قاعدة وأساسًا انطلقت منه مصر نحو زعامة المنطقة العربية والقارة الإفريقية".
"وعلى مدار تاريخ مصر الحديث، وبالرغم من التحولات والتقلبات من أحداث وحروب وثورات عصفت بمصر علي مدار قرن كامل، لكن ظلت النخب السياسية بشتي تنوعاتها لديها شعور بالزهو والفخر بالتراث التاريخي لبلدهم، وذلك عكس جماعة التنظيم الإرهابي التي ترفض باستنكار هذا التاريخ ويطلقون على فراعنة مصر أسماء مستمدة من مسميات ناتجة عن مغالطات دينية وتاريخية، مثل "الكفار" و"الطغاة"، حتى وصل الأمر إلى التقليل من شأن أعظم حضارة عرفها تاريخ الإنسان المكتوب، وتفجير المساجد والكنائس وترويع الشعب، أفعال لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تأتى من إنسان يعتبر نفسه "مصرياً".
يضيف الباحث في مقاله: "لم تكن أزمة الهوية المصرية وليدة أزمات العقد الفائت، فقد دارت جدالات فكرية بين مفكري ومثقفي مصر، وعلي رأسهم طه حسين، والعقاد، وسلامة موسي، ولطفي السيد، والرافعي، بين من يؤيد مصر الفرعونية وآخر يراها عربية وثالث يرها شرق أوسطية وتشترك مع دول البحر المتوسط في الثقافة والتاريخ. لقد شكلت هذه الجدالات بين كبار المثقفين والأدباء وجها أدبيًا وإبداعيًا أضاف لمصر ولم ينل منها، وساهم في تحديد ملامح الشخصية المصرية ورفع وعيها بتاريخها وحضارتها وبالاعتزاز القومي الذي ينبغي أن تنظر به إلي ذاتها".
إن أزمة الهوية الوطنية ليست بجديدة عهد ولا تقتصر علي بلد بعينه، بل إن أغلب الدول إن لم يكن كل الدول عليها أن تخوض في هذا الجدال الكبير حول هوية الأمة، الذي يختلف في شكله ووحدته وجوهره من بلد لآخر، حيث تطرح الشعوب سؤال "من نحن" و "ما الذي يميزنا عن سائر الأمم الأخرى" لتعيد التأكيد علي ثوابتها وتجد طريقها نحو الخروج، ولقد فعلت الأمة المصرية هذا في أوقات الأزمات الكبرى. انتهى.
الأمر انتبهت له القيادة السياسية في منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، حيث عكفت على مشروع إحياء الهوية المصرية الوطنية، وأكبر دليل على ذلك فرحة المصريين بكل افتتاح أثري وإحياء لمزار فرعوني.
فماذا لو كان للمصريين استثناء بين الحين والآخر؟؛ ليحدثوا أجدادهم ويصلوا أرحامهم المقطوعة عن كثير منهم لضيق ذات اليد أحياناً وأخرى لبعد المسافات وكثيرة هي الأسباب.
الدولة تسير بخطى ثابتة في هذا الملف، لكن بعض الإضافات قد تعطي له زخماً أكثر وأكثر في نفوس عموم المصريين، بما يضمن للجميع أمن قومي مستدام وهوية وطنية لا تنتهي.