لحظة تأمل
الثلاثاء، 26 يوليو 2022 04:33 م
نحن فى هذه الأيام على مفترق الطريق بين عام هجري انطوت صحائفه التى لا ندري ما الله صانع بها، وبين عام نبتدئ أيامه التى لا ندري ما الله قاض فيها، وهذه الأيام ماضيها وآتيها صحائف نكتب نحن سطورها بأقوالنا وأعمالنا.
وما اسعد الذين يتداركون مَرّ الأيام وكرّ الشهور والاعوام بعمل صالح ينافسون فيه اخوانهم المستخلفين معهم على عمارة هذا الكوكب وإبلاغ الحياة الدنيا كمالها كي تكون أُخْراهم على غرارها، فالأيام تمضي والاعمار تطوى والليل والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلفان كل جديد، وفى ذلك ما يلهي عن الدنيا ويذكر بالآخرة حيث نصير لا محالة إلى رب العالمين بسجل افعالنا لا بحسب مصنوع ولا بمجد موضوع.
ومن كلام الإمام علي "أن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل"، إنها حقيقة لا تخفى الا على مفتونى الحياة وأسرى زخارفها ومتاعها القليل، وقد جعلنا الله خلائف فى الأرض واستعمرنا فيها وهدانا سبلنا حتى غرّت الأهواء من غرّت وغلبت عليهم الشهوات، وتداخلت فى تصورهم حدود الخير والشر، فرأوا المعروف منكرا والمنكر معروفاً وأمروا احيانا بالمنكر ونهو عن المعروف، "وتعس من ليس له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر" كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه.
إننا على مفترق الطريق بين عامين، مضى أحدهما واقبل الآخر، وما احوج أن نكون فى لحظة تأمل ومحاسبة نودّ أن تطول وتصدق وتثمر فينا العبرة الهادية والعظة الباقية والعلم البصير الذي نغدو به ونروح إلى معالي الأمور.
إن وقفة التأمل ضرورة ماسة نعرف منها أين نحن؟.. وإلى أين نذهب، فإن وجدنا خيرا حمدنا الله الذي بنعمته تتم الصالحات وشمرنا لمزيد من الإحسان الذي لا تزدهر الحياة بغيره ولا تطيب العقبى بسواه "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون".
وحين يسرع الغافلون إلى الله ويصدقون فى توبتهم وأوبتهم سنجد أن الله تعالى يبسط لهم يد الرضوان والإحسان مع من استثناهم من عباد الرحمن "الا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا". والمؤمن يدرك بوقفة التأمل أن الزمان وعاء الإيمان والإحسان، وفي التأمل عبرة من انقضاء الأيام وقد ودع الإنسان عاما مضى واستقبل آخر اشرقت شمسه واتسع ضحاه.
وصدق الشاعر حيث قال: يأتى على المرء إصباح وإمساء. وكلنا لصروف الدهر نسَّاء.
والحسن البصري يقول: يا ابن ادم أنت ايام تمر وكلما مرّ يوم ذهب بعضك.
وأرحم الراحمين ينادى على عباده ويقول: "يا ايها الذين امنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
وياويح من ضل وجهل وذهل وزين له سوء عمله فرآه حسنا حتى نسي ربه فأنساه الله نفسه، والمؤمن الحق يعيش يومه ويذكر أمسه ويرقب غده ويؤمله بقدر ما أحسن من عمل لا بمجرد التمني والأمل، فبالأعمال الصالحة تحرز الدنيا والآخرة على سواء، وبالتمني والتشهي يظل الغافلون فى مواقعهم والدنيا تتحرك من حولهم ويجنى العاملون ثمارها دونهم، وربما هتف بهم من قريب صائح يصيح بالحق وهم فى غفلة ساهون.
أننا سنواجه الآخرة كما واجهنا العام الذي أقبل، واذا كان الذي أقبل فى دنيا الناس ينفد فإن الآخرة تبقى وتتجدد بعدل الله الذي يقوم قائمه ولا يزول فيمن أحسن وفيمن أساء "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين".
ولقد كان للتابعي الجليل عبد الله بن المبارك علما واسعا بالكتاب والسنة وبصحابة رسول الله وعلما بقيمة الأيام والليالي، فأورثه كل ذلك علما بالحياة وتصاريفها وفهما للوقت وقيمته والانتفاع به وتوجيه الناس إلى اغتنام لحظاته التى تتتابع وكأن بعضها يسوق بعض، فكان يقول رضي الله عنه: اغتنم ركعتين زلفى إلى الله اذا كنت فارغا مستريحا، وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه التسبيحا، فاغتنام السكوت افضل من خوض وأن كنت بالكلام فصيحا.
ولقد وعظ البخارى من حوله قائلا:
أقبل على صلواتك الخمس
فكم مصبح وعساه لا يمسي!!
واستقبل اليوم الجديد بتوبة
تمحو ذنوب صحيفة الأمس
فليفعلن بوجهك الغض البلى
فعل الظلام بطلعة الشمس
"قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما انا عليكم بحفيظ".. الأنعام 104