يلعب قانون الأحوال الشخصية "قانون الأسرة" دورا مهمًا وشديد الخطورة في تحديد العلاقات الاجتماعية، باعتباره القانون الأشد صلة بالحياة اليومية للمواطنين والأكثر اقترابا وتأثيرا في الوحدة الأساسية للمجتمع، أي الأسرة، فهو الذي يحكم شؤون الأسرة والعلاقة بين أطرافها.
ويحدد القانون حقوق وواجبات كل من أفرادها وعلاقاتهم، كما يضبط أمور الزواج والطلاق ورعاية الأطفال والأمور النفسية والمالية الناتجة عن الطلاق، ومن ناحية أخرى، فإن قانون الأحوال الشخصية هو الذي يكشف عن وضع المرأة في المجتمع وترتيبها في الحقوق - وهي أوضاع شديدة الحساسية - ويؤثر على مبادئ حقوق الإنسان المتعلقة بها والتي تطبق في تشريعات المجتمعات العربية.
وتطور قوانين الأحوال الشخصية في التشريعات العربية بمراحل مهمة وجاءت تحولات في التناول الفقهي للأحوال الشخصية في سياق دعوات التجديد والاجتهاد الفقهي التي ظهرت في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث تعتبر تلك الفترة بمثابة جذور في نشر الدعوة إلى الاجتهاد، وظهور إرهاصات الحاجة إليه، وإحياء معالم التجديد وإذكاء روح الاجتهاد المعاصر – بحسب الخبير القانوني والمحامي بالنقض محمود البدوي.
في البداية - ظهرت الأفكار الداعية إلى مراجعة الأحكام المنظمة للأحوال الشخصية أو الأسرة منذ بداية القرن الماضي، غير أن مسائل الأحوال الشخصية بقيت من دون تدوين حتى 1917ميلادية، إلى أن أصدرت الدولة العثمانية قانوناً لأحكام الزواج والفرقة للمسلمين والمسيحيين والموسويين، كل بحسب شرائعهم وتقاليدهم، وأسمته "قانون حقوق العائلة"، وذكرت في أسبابه الموجبة ضرورة إلغاء المحاكم الروحية التي لا تخضع لرقابة الدولة، وضرورة تدوين أحكام العائلة على أسس ثابتة وفقاً لتقاليد الطوائف المختلفة، وتتابع بعد ذلك صدور مدونات الأحوال الشخصية في كثير من الدول الإسلامية مع تعديلات متتالية لبعض موادها، يتفاوت مضمونها من مدونة إلى أخرى – وفقا لـ"البدوى".
ويعتبر أول من استعمل هذا المصطلح في الفقه العربي الإسلامي في مطلع القرن العشرين العلامة المصري محمد قدري باشا، عندما ألف كتابه "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية"، وهو كتاب صنفه في مواد قانونية بلغت 647 مادة أخذها كلها من القول الراجح في مذهب الإمام أبي حنيفة من دون غيره، تلبية لحاجات القضاء الشرعي الإسلامي في مصر الذي يعتمد هذا المذهب في أحكامه على المصريين المسلمين، ثم شاع هذا الكتاب وانتشر في أكثر الأقطار العربية والإسلامية ومنها القطر العربي السوري، واعتمده القضاة في أقضيتهم وإن لم يصدر به قانون ملزم، كما شاع هذا المصطلح بين الفقهاء والقانونيين – الكلام لـ"البدوى".
يجب أن نعلم أن قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية المعمول بها في البلدان العربية جاءت نتيجة موازنات تشريعية بين المرجعية الدينية الفقهية وبين المرجعيات القانونية الوضعية الحديثة، ولم تكن تلك الموازنات فقهية أو أكاديمية صرف، بل كانت تحدث دائما في سياقات سياسية واجتماعية شديدة التعقيد، فتتابع صدور قوانين وتشريعات عربية كثيرة بهذا الاسم أيضاً منها : "قانون الأحوال الشخصية السوري - الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 تاريخ 17/9/1953 والمعدل بالقانون رقم 34 تاريخ 31 ديسمبر 1975 ميلادية، وقانون "الأحوال الشخصية الأردني" الصادر بالقانون رقم 61 تاريخ 5 سبتمبر 1975 ميلادية وغيرهما – هكذا يقول "البدوى".
وعن مسألة تطور قانون الأحوال الشخصية في التشريع المصري، فقد صدرت عدة قوانين متفرقة، عام 1920، وعام 1929، وعام 1946، منها قانون المواريث، وقانون الولاية على المال، وقانون الوقف رقم 48 لعام 1946، ثم صدر القانون رقم 180 لسنة 1952 بإلغاء الوقف الأهلي، وأدخلت عليه بعض التعديلات الهامة بالقانون رقم 100 لعام 1985، والقانون رقم 1 لعام 2000 الذي أدخل التعديلات الخاصة بالخلع، وخلال الفترة الماضية هناك عدد من مشاريع القوانين التي قُدمت إلى مجلس النواب لتعديل قانون الأحوال الشخصية وعلى رأسها قانون الأزهر الشريف الذى تدور حوله العديد من النقاشات بين السلب والإيجاب وكذلك مشروع النائب البرلماني محمد فؤاد، ومشروع القانون المقدم من المجلس القومى للمرأة وغيرها من مشاريع القوانين، قبل دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتعديل القانون.
تطور قانون الأحوال الشخصية في التشريع العراقي
أما في دولة العراق، فقد أصدر النظام الجمهوري عام 1959 قانوناَ للأحوال الشخصية، ثم عدل بالقانون رقم "11" عام 1963ميلادية، وهو مستقى من جميع المذاهب الفقهية، وفي فبراير 2013 أقر مجلس الوزراء العراقي قانوناً جديداً للأحوال الشخصية على المذهب الجعفري، لكنه لازال يثير اتهامات بالطائفية وعدم مراعاة التنوع داخل المجتمع العراقي.
تطور قانون الأحوال الشخصية في منطقة الشام
بينما في الدولة الأردنية، فقد صدر قانون حقوق العائلة عام 1951 الذي حل محل قانون العائلة العثماني، وهو يشبه في الجملة القانون السوري، ثم صدر عام 1976 قانون الأحوال الشخصية رقم 61 والذي حل محله مؤخراً القانون الجديد رقم 36 لعام 2010، وأما فى سوريا فقد صدر قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 بتاريخ 7/9/1953 وتم تعديل القانون في 1975، ثم 2004.
وفي لبنان لا يزال قانون حقوق العائلة العثماني الصادر عام 1917 هو المطبق على المسلمين، ومعظمه من الفقه الحنفي، ويُتاح لكل طائفة أن تحكم في أمور الأحوال الشخصية بتشريعها الديني الخاص، حيث يختلف قانون الأحوال الشخصية في لبنان من طائفة إلى أخرى، مما ينتج عنه 15 مجموعة مختلفة من القوانين حول أمور مثل قواعد الزواج والطلاق والحضانة وزيارة الأطفال، فمثلا في حالات الطلاق للمسلمين الشيعة، عادة ما تمنح المحاكم الدينية الشيعية حضانة الأطفال للآباء في سن الثانية للأبناء والسن السابعة للبنات.
قانون الأحوال الشخصية فى ليبيا والسودان
أما في ليبيا يُعمل بالقانون رقم "10" لسنة 1984 بشأن الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق وآثارهم، وبشأن الميراث يُعمل بقانون عام 1947، وأصدرت بعض التعديلات منفردة في عام 2013، بينما في السودان يُعمل بالراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، إلا في المسائل التي تصدر بها منشورات شرعية من قاضي القضاة تأخذ بغير الراجح في المذهب الحنفي من المذاهب الأخرى، ثم نسخت بقانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991ميلادية.
قانون الأحوال الشخصية في السعودية والكويت
في المملكة العربية السعودية يُطبق المذهب الحنبلي وفق الراجح في المؤلفات الفقهية المعروفة المعتمدة، مثل كشاف القناع وغاية المنتهى، وعلماؤهم يمنعون التقنين، أما في الكويت فقد صدر قانون للأحوال الشخصية عام 1983 يشتمل على157 مادة، وهو مستمد من مختلف المذاهب الفقهية من دون تقيد بمذهب معين وأدخل عليه تعديلات قانون رقم "66" لسنة 2007 بإضافة مواد جديدة إلى القانون رقم "51" لسنة 1984 في شأن الأحوال الشخصية.
قانون الأحوال الشخصية فى عمان وقطر والإمارات
في سلطنة عُمان صدر قانون الأحوال الشخصية في سلطنة عمان بمرسوم سلطاني رقم 32/97 بتاريخ 4 يونيو 1997 ويعمل بالراجح من المذهب الإباضي، وفي قطر صدر قانون الأسرة "22 / 2006" وقانون 21/1989 تنظيم الزواج من الأجانب وقانون الولاية على أموال القاصرين 40/2004، وصدرت الموافقة الرسمية من مجلس الشورى 2014 ميلادية على قانون إجراءات التقاضي في مسائل الأسرة، ويُعمل فيه بالمذهب الحنبلي، أما في دولة الإمارات العربية المتحدة أعد مشروع القانون الاتحادي لسنة 1979 بإصدار قانون الأحوال الشخصية من 455 مادة ثُم عدل، وقد صدر أخيراً بالقانون 28 لعام 2005.
تطور قانون الأحوال الشخصية فى اليمن
أما فى اليمن أُصدر قرار مجلس النواب رقم "17 – 5" لسنة 1996م بالموافقة على القرار الجمهوري بالقانون رقم "20" لسنة 1992م بشأن الأحوال الشخصية والمعدل بــالقانون رقم "27" لسنة 1998م والقانون رقم "24" لسنة 1999م والقانون رقم "34" لسنة 2003م، ويعمل بالمذهب الزيدي.
قانون الأحوال الشخصية في منطقة المغرب العربي
أما في المغرب العربي "تونس- الجزائر- المغرب"، تفاوتت مسارات قوانين الأحوال الشخصية في بلدان المغرب العربي وفقا لطبيعة التكوينات الاجتماعية فيها، وأيضا لطبيعة أنماط التدين التي تهيمن على أبنيتها العقائدية، فعلى الرغم من أن البلدان الثلاثة تتسم بوحدة شبه مطلقة للدين والمذهب، حيث تصل نسبة المسلمين السُنة المالكيين في كل بلد من البلدان الثلاثة إلى أكثر من 98% من تعداد السكان، فإن التعامل مع الأقليات الصغيرة في تلك البلاد وتقنين أوضاعها يختلف من بلد إلى أخرى.
وقانون الأحوال الشخصية في كل من البلدان الثلاثة هو أحد أوجه التنازع بين القيم التقليدية وقيم الحداثة بعد سنين طويلة من الاستعمار كشفت الهوة العميقة بين الغرب الحداثي والشرق التقليدي، وكان لكل دولة من الدول الثلاثة طريقتها في توليفتها الخاصة بين الحداثة والتراث، إلا أن كل من الدول الثلاثة كانت متمسكة بأن يخرج قانون أحوالها الشخصية كدرب من دروب الاجتهاد الشرعي.
ففي تونس التي شهدت أول تقنين للفقه الإسلامي في العالم في "قانون الجنايات والأحكام العرفية" الصادر سنة 1861 والذي جاء قبل "مجلة الأحكام العدلية" الشهيرة التي طبقت في أغلب الدول الإسلامية بعد ذلك، وينظر الكثيرون إلى مجلة الأحوال الشخصية التونسية، والتي كانت تحت إدارة وإشراف ثلة من علماء الشرع من أبناء جامع الزيتونة، كان من بينهم الإمام الشهير "الطاهر بن عاشور"، باعتبارها من أكثر مشاريع القوانين في العالم الإسلامي تحررًا من قيود التراث، بل ويرى البعض أن بها خروجًا واضحًا عن بعض أحكام الإسلام، مثل إباحة التبني، ومنع تعدد الزوجات، بل ومنع الطلاق .
وقد أجرى الملك تعديلات على مدونة الأحوال الشخصية المغربية، وصفت بالثورية، تركزت 11 نقطة تتعلق باقتسام مسؤولية رعاية الأسرة بين الزوج والزوجة واعتبار الولاية حقا للمرأة، وتقييد التعدد، وتوحيد سن الزواج وسن اختيار الحاضن بالنسبة للذكر والأنثى، وحماية حق الطفل في النسب، وجعل الطلاق حلًّا لميثاق الزوجية يمارس من طرف الزوج والزوجة، وتوسيع حق المرأة في طلب التطليق، والحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولية وضمان مصلحة الطفل في الحضانة، وإعطاء أبناء البنت الحق في الإرث من جدهم، وتبسيط إجراءات الزواج بالنسبة للمغاربة المقيمين في الخارج، وحق المرأة في الأموال المكتسبة أثناء الزواج.