عندما ولد النصر من قلب الهزيمة
السبت، 26 مارس 2022 04:17 م
- الجيش الذي مزقته معركة الجسر هو نفسه الذي حقق انتصارات باهرة محت عروش الأكاسرة
لا أظن أن معركة إسلامية قد ظلمت كما ظلمت معركة الجسر، فالمعركة على خطورتها وعلى ما تقدمه من جليل الدروس نادرًا ما يذكرها أحد أو يتصدى لدراستها وتقديم دروسها العميقة لعامة الناس.
وقعت معركة الجسر بين المسلمين والفرس في 23 شعبان من العام 13 من هجرة رسولنا الكريم في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب عليه الرضوان.
وكان الذي يقود المسلمين هو أبو عبيدة بن مسعود، وهو رجل وإن لم يكن ذائع الصيت إلا أن صفحات العسكرية الإسلامية تحتفظ له بتاريخ ناصع، فقد كان قائدً شجاعًا، استطاع أن يستعيد كل الأراضي التي تخلى عنها المسلمون، وبجيشه الذي لا يزيد عن عشرة آلاف مقاتل استطاع أن ينتصر في ثلاث معارك كبيرة هي النمارق والسقاطية وباقسياثا.
الجسر هو الكوبرى بلغة أيامنا، ويقول ملخصها إن رستم قائد الفرس الشهير كان رجلا صاحب طموح وكبرياء، وقد هزته هزا عنيفا الهزائم التى أوقعها المسلمون به وبجيوشه، فحشد حشدا عظيما مكونا من ثمانين ألف مقاتل من خيرة محاربي الفرس، وجعل فى مقدمة جيشه عشرين فيلا، وهو كائن ليس للمسلمين الأوائل فى زمن عمر بن الخطاب كثير معرفة به، وجعل القيادة العامة لبهمن جازويه، وهو من أشد العسكريين الفرس بغضا للمسلمين، كان معسكر الفرس على الجانب الشرقي من نهر الفرات ومعسكر المسلمين على الجانب الغربي، ولا يفصل بينهما سوى جسر صغير يصل بين الضفتين.
صاح بهمن فى المسلمين: «هل تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟».
أكابر قادة الجيش، وكان من بينهم القائد الفذ الشهير المثنى بن حارثة، أشاروا على أبى عبيدة بضرورة أن يعبر الفرس إليهم، وقد قالوا فى حيثيات مشورتهم إن المسلمين لو انهزموا فسيعودون إلى بلادهم التى يعرفون جغرافيتها، أما لو عبروا وهزموا على أرض العدو فسوف يتشتت الجيش، ولن تقوم له قائمة.
يقول المؤرخون إن أبا عبيدة كان رجلا من حديد لا يلين لرأى غير رأى حماسه الدافق وإخلاصه العظيم، ولذا فقد شق على ثقته بنفسه وبرجاله أن يبقى فى مكانه، ولا يعبر بالجيش ليلاقي العدو على أرضه، وقد حاول المثنى غير مرة أن يثنيه عن عزمه هذا، ويبين له خطورة ما هو مقدم عليه، لكنه بحكم قيادته استبد برأيه، وأمر الجيش بالعبور.
وما أن عبر جيش المسلمين، وكان عدده عشرة آلاف مقاتل، حتى تصدت لهم الأفيال فجفلت خيول المسلمين، وولت هاربة من ميدان المعركة، وقد ألقت من فوق ظهورها فرسانها، حاول المثنى وباقي القواد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن كان الوقت قد فاتهم، وتبعثرت فرص الإنقاذ، لأن أبا عبيدة ذهب برأيه إلى كارثة محققة، وذلك عندما ذهب ليقتل الفيل الأبيض، الذى كان بمثابة القائد العام للأفيال، وقد حاول باقي القواد مرة أخرى منع أبى عبيدة من مواجهة هذا الفيل تحديدا، لكنه رفض الإنصات إليهم، ضرب أبو عبيدة الفيل بسيفه على خرطومه ضربة قاتلة أهاجت الفيل، الذى ركل أبا عبيدة ركلة أطاحت به، ثم جن جنون الفيل، فوقف فوق جسد أبى عبيدة حتى جعله والأرض سواء، هنا تيقن المسلمون من الهزيمة بعد مقتل قائدهم العام، ومقتل القادة العموميين، الذين عينهم قبل موته، وكانوا جميعا من أبنائه الذين حاولوا الثأر لأبيهم فماتوا مثله بسبب حماسهم الزائد الذى كان فى غير محله، وما زاد الطين بلة أن أحد عساكر جيش المسلمين تقدم بفرقة من الجيش، وقاموا بقطع الجسر لكى يحمس الناس على القتال حتى آخر نفس. قطع الجسر أدى إلى مزيد من استبسال الفرس، الذين أعملوا سيوفهم ورماحهم فى ظهور عساكر المسلمين، الذين تفرق جمعهم.
بعد تلك النكبة تقدم القائد الفذ المثنى بن حارثة لقيادة ما تبقى من الجيش، لما رأى المثنى هذه الكارثة المروعة التي حلت بالجيش انتخب كتيبة بقيادته وأسرع لإصلاح الجسر المنهار، وكان المتهور عبد الله بن مرثد الثقفي قد وقف عند الجسر ليمنع المسلمين من الفرار، فألقى المثنى القبض عليه وربطه، فاعتذر عبد الله بن مرثد بأنه إنما أراد أن يثير حمية المسلمين للقتال، وأخيراً، وبعد جهد شديد استطاع المثنى ومن معه إصلاح الجسر، وأمر المقاتلين أن يعبروه للجهة الأخرى، وقد بقي المثنى على أول الجسر يشرف على عبور جيشه للطرف الآخر مدافعاً عنهم فأصيب إصابة أدت إلى وفاته بعد ذلك بشهرين، وانتهت هذه المعركة باستشهاد أربعة آلاف شهيد منهم الأمراء السبعة، لذلك فإن وقعها كان شديدًا على نفوس المسلمين حتى إن ألفين من الجيش فروا حتى دخلوا البادية فاختفوا فيها خجلاً مما جرى، ولم يبق مع المثنى سوى ثلاثة آلاف هم الذين انتقموا لمصرع إخوانهم في المعارك التي تلت معركة الجسر.
وبعد مرور قرون على تلك المعركة يحق لنا أن نحذر من اليأس فقد ولد النصر من قلب الهزيمة، فالجيش الذي مزقته معركة الجسر هو نفسه الجيش الذي حقق انتصارات باهرة محت عروش الأكاسرة.